كتابة الحياة- زادي سميث

من كتابها (Feel Free) الصادر سنة 2018

منذ الأزل أردتُ أن أحتفظ بمذكراتي. حاولتُ ذلك خلال المراهقة ولكن دومًا ما كنتُ أتخلى عن ذلك. حلمتُ أن أكون صريحة جدًا مثل جو أورتون(1)، المعجبة بمذكراته، والتي وجدتها في المكتبة حين كنتُ في الرابعة عشر من عمري. كانت قراءتي لها مقسمة بين الاهتمام الأدبي و بين الإباحية، مبتهجة باللحاق بجو في زوايا المدينة وأزقتها حيث مشيتُ أنا فقط بينما استطاع هو أن يحظى بجنسٍ محظور ومحرم. فكرتُ: إذا كنتُ تنوين كتابة مذكراتك فيجب أن تكون كهذه، يجب أن تكون حرة بكل ما للكلمة من معنى، أن تكون صادقة. لكني اكتشفتُ أني غير قادرة على الكتابة عن الرغبات الجنسية (خجولة جدًا، مخادعة جدًا)، ولا أقدر على وصف أي ممارسة جنسية -لم أكن مارستُ أي منها- لذا سنحدر المذكرات إلى بيان مبتذل لإعجابات مزيفة ورومنسية متخيلة وسرعان ما سأتقزز منها وسأنحيها جانبًا. لاحقًا حاولتُ مرة أخرى، حاشدةٌ هذه المرة تركيزي في الكتابة على المدرسة فقط كما لو أنني شخصية في أعمال جودي بلوم (2)، مُفصلة حوادث ساحة اللعب ودراما الصداقات، لكني لم أقدر أبدًا على حجب احتمالية وجود قراء لما أكتبه في عقلي، وهذا أفسد الكتابة عليّ إذا بدت كما لو أنها واجبٌ مدرسي. حاولتُ دومًا صياغة الأحداث لصالحي في حال عثر أحدهم على المذكرات في المدرسة وعرضها على الجميع. كانت فكرة الكذب في كتابة المذكرات – هذا الصوت المسموع المفترض أنه لا لأحدٍ سواك- فكرة مخيبة لي. شعرتُ بأن في الحياة حيل وخدع كثيرة دون خلق ما كأنه نمط لأفكارك الذاتية الحميمية. أو لربما كان العكس: البعض قادرٌ على كتابة شعوره بصراحة وبساطة بينما لم أكن أنا قادرة على تحرير نفسي من حبها فيما يشبه النمط المحدد.

كشابة قرأتُ الكثير من مذكرات فرجينيا وولف ومرة أخرى اعتقدتُ بأن عليّ أن أكتب مذكراتي. عرفتُ نفسي حينها معرفة كافية لأدرك أن إعادة قص مشاعري الشخصية في المذكرات فعلٌ لا يُطاق بالنسبة لي ولا يُحتمل، كنتُ واعية بذاتي وعيًا تامًا، وكسولة جدًا لأحتمل عبء العمل اليومي هذا. لذا حاولتُ نسخ صياغة وأسلوب فرجينيا في كتابها “مذكرات كاتبة” وكنتُ أدون فقط في الأيام التي يخطر لي فيها شيءٌ أدبي: إما كتبته أنا أو قرأته، أو حدث لكتاب آخرين. عاشت تلك المذكرات ليوم واحد فقط. تضمنت ظهيرة قضيتها بصحبة جيفري إوجينديس (3) واحتلت اثنتي عشر صفحة ونص ليلة. انسي الأمر! على هذا المنوال سيستغرق تدوين الحياة زمنًا أطول من عيشها. أعتقد أن جزءً من المشكلة كان بسبب الحاجة للكتابة بصيغة المتحدث، الصيغة التي كنت أعدها -حتى زمن قريب- شاقة ومُنهكة. لم أكن قادرة على استخدامها بثقة سوى في بضعة مقاطع مقالية قصيرة أتحدث فيها عن انفجارات شعورية. حين كنتُ أصغر سنًا كان حتى مظهر الضمير “أنا” في الصفحة يُشعرني بعض الشيء بالمرض – ذلك الوعي بالذات مرة أخرى- وكنتُ دومًا أحاول إخفاءه بـ “نحن”. لاحظتُ أن ذلك بدأ يتغير حين وصلتُ أمريكا ثم تزايد ذلك، أنظر الآن إلى الصفحة وأرى العديد من الصياغات التي تتضمن “أنا” أكثر من اتساع مدى والت ويتمان. لكني ما زلتُ أعاني من وجود عائق ذهني حين يتعلق الأمر بالمذكرات واليوميات. تخطر لي نفس الأسئلة الطفولية. لمن هذه؟ ما هو هذا الصوت؟ من هذا الذي أحاول خداعه، نفسي؟

أدركتُ أنني لا أرغب بتسجيل أي يومٍ من أيامي. عقلي هو ذلك النوع من العقول الذي يمحو كل شيء يمضي، مباشرةً تقريبًا، كذاك الكلب المكنسة والجاروف في أليس في بلاد العجائب يكنس الدرب بينما هو يسير. لم أعرف أبدًا في أي تاريخ ما كنتُ أفعله، أو كان عمري حين حدث هذا أو ذلك، وأحب وضعي هكذا. أشعر بأنني حين أشيخُ جدًا و”يتهاوى” عقلي فلن يحس باختلاف كبير عن هذه الحياة التي أعيشها الآن، في مستنقع اللا ذكريات، والتي -رغم أنها تثير حفيظة أحبائي وأعزائي- لابد أنها تناسبني بشكلٍ ما؛ لأنني وكما يبدو أنني لن أغيرها ولو بإرادتي. أتسائل لو كانت مرتبطة بطريقة غير مباشرة بالطريقة التي أكتب فيها رواياتي -التي ولنقل- كأن ممسحة أرجل في شقة سكنتها منذ سنوات ستعاود الظهور كما كانت قبلًا، تلك الممسحة نفسها، نفس الطيات ونفس الأنسجة، ومع ذلك لا أستطيع تحديد الزمن الذي سكنتُ فيه هناك، من كنتُ أواعد أو حتى إذا ما كان والدي على قيد الحياة حينها أو أنه متوفى. ربما كان نظام اللاذكريات الأول من نوعه – النظام الذي لا يسترجع التواريخ ولا الأحداث الفارقة- هو من يسمح لبقية أنظمة الذاكرة في عقلي لتعمل، يفسح غياب الأول للثاني مكانًا ومساحة، يخلي الدرب لما أيًا يكن سيحدث والذي يبدو أنه يثب داخل عقلي كحيوانات ليلة خجولة، جارة معها أشياء غريبة كممسحة أرجل، مهر منفرد ذاوٍ، أو ملصق محبب له شكل الفراولة لم أره منذ 1986، لكنه ما زال يبدو كفراولة وعبق مثلها أيضًا.

حين يتعلق الأمر بكتابة الحياة، الكتابة الحقيقية، الصادقة، كتابة المذكرات، التي تبدو كبثور من كل الأنواع، الكتابة الوحيدة التي كان عليّ أن أعرضها على نفسي -قبل القديس بطرس وغيره أيضًا- هي في بريدي الإلكتروني على موقع ياهو، الذي أنشأته منذ سنة 1996 وما زال فاعلًا حتى الآن. هناك (رغم أنني أفضل الموت على قراءة ما فيه بأكمله) على الأرجح هو أقرب سجل صادق لحياتي، على الأقل كتابيًا. تلك هي أنا بخيري وشري، بكل الأعمال والكذبات القذرة والشجارات المنزلية و الصداقات المبنية على الولع بالكتب و مبيعات الأزياء عبر الإنترنت. كالمعظم (كما يجب عليّ أن أظن) فإن فكرة تجول أحدهم في حسابي ذلك هو كابوس شخصي، يقرأون ما يريدون، ويطلقون الأحكام. في الوقت ذاته لو أراد أطفالي حين أموت أن يعرفوا كيف كنتُ في المشهد الحياتي اليومي، لا ككاتبة، لا كشخص حسن بشكل أو بآخر، لكن ببساطة ككائن بشري أحمق خلف كل هذا، فسيكون من الحكمة أن يبحثوا هناك.

هوامش المترجمة:

(1):كاتب مسرحيات ومؤلف روايات بريطاني.

(2): كاتبة أمريكية في أدب الطفل والناشئة.

(3): روائي وقاص أمريكي.

أضف تعليق