الإنجيل – مارجريت دوراس (قصة قصيرة)

(طبيعة صامتة وإنجيل، ڤنسنت ڤان غوخ)

كان له عشرون سنة، هي ثماني عشر. دنا منها ذات مساء في الكَفيه دي غوليه سان ميشيل. خبرها أنه قد أتى توًا من درسه في علم الاجتماع. أما هي فتحينت جملة أيام لتخبره أنها كانت فتاة مبيعات في محل أحذية. دأبا على عادة التلاقي في حجرة الغوليه الخلفية؛ غالبًا نحو الساعة السادسة إلا عشر، بعد أن تنصرف من عملها في المحل. كانت مسرورة بالعثور عليه هناك كل ليلة: كان صحبة، كان مؤدبًا وطيبًا. سرها الوقوع على أحد لها معه تمضية ساعات ما قبل العشاء قبل الرجعة إلى حجرتها. ما أكثرت الكلام؛ كان هو من خبرها. خبرها عن الإسلام والإنجيل. هذا ما فاجأها على التعيين، ولو أنه رجع إلى الأمر المرة تلو المرة. ما فاجأها، ما فاجأها أي شيء: كانت تلك الشاكلة التي هي عليها ليس إلا؛ ما فاجأها عن حق أي شيء.

الليلة الأولى حدثها عن الإسلام. من الغد نام معها وحدثها عن الإنجيل. سألها إن كانت قد قرأته. خبرته أنها ما قد. بعد الغد جاءها بإنجيل معه قرأ سفر الجامعة لها في حجرة الغوليه الخلفية. قرأه جاهرًا، يداه على أذنيه، بصوت مشبوب، مراعيًا التناسب الشعائري. وقعت من هذا في حرج وتساءلت ما إذا كانت فيه مسحة جنون. بعد حين سألها ما قد كان رأيها فيه. ما قد ألقت السمع فيما كان يقرأ لأنها كانت في حرج منه. خبرته أنه بدا عندها معقولًا، أن لا بأس به. تبسم من ردها؛ أبان لها أنه كان نصًا من الأصول وتعلمه ضرورة.

قد رأى بردية ناش في المتحف البريطاني؛ خبرها عنها. قد قضى غير ساعة قبالة خزانة العرض الزجاجية، وقد رجع ثانية من الغد، وغير يوم بعده. ما كان لينسى أبدًا هاته اللحظات. ما بقي على بردية ناش عدا سطور معدودات من سفر الخروج. حدثها عن سفر الخروج. ” ولكنَّ بَني إِسرائيلَ نَمَوا وتَوالَدوا وكَثُروا وعَظُموا حتّى ا‏متَلأت أرضُ مِصْرَ مِنهُم… حتّى تخَوَّفَ المِصْريُّونَ مِنهُم…”(*) خبرها عن كل الأناجيل: الفولغاتا والسبعينية، وكمثلها عن الڤاتيكانية، السينيائية، العبرانية، الآرمانية، الإغريقية، والأناجيل اللاتينية.

ما أراد قط الحديث عنها، وما سألها قط أكانت مسرورة بالعمل في محل الأحذية، أو كيف كانت أتيتها پاريس، أو ما استحبت. مارسا الحب سوية. استحبت ممارسة الحب. كان واحدًا فيما استحبت. فيما كانا يمارسان الحب ما تحادثا. متى قضى راح يتحدث تارة ثانية على سينت چيروم الذي أفنى عمره يترجم الإنجيل.

كان نحيلًا، فيه طفيف حدب. شعره مموجٌ وأسود، وكانت له عينان بارعتا الجمال زرقاوان، تطابقهما رموش سوداء كثيفة. جلده كان شاحبًا، فمه معبر كثيرًا، شفتاه الشاحبتان لا تكادان تمسان أسنانه. أنف مدور كان له، وجنتان واضحتان. ما كان على التعيين نظيفًا؛ أطواق قمصانه كانت في غير الحال المأمول، ومثلها أظافره؛ التي كانت وردية ومستديرة وما أكبرها على يديه المستدقتين؛ جاعلة أصابعه كأنها مباسط. كان له صدر مجوف. قد أمضى يفاعته يقرأ النصوص المقدسة في الإسلام والمسيحية. تعلم العبرية، العربية، الإنجليزية، الألمانية. لا يزال كان يدرس العربية في مدرسة اللغات الشرقية؛ ولو أنه للحق قد أتقنها حق الإتقان -إذ كان لا يزال في سنته الثانية لما تعارفا ليس إلا- حتى وسعه قراءة القرآن بلغته الأصل.

بعض الأحايين صحبها إلى العشاء في الخارج، لكن إلى مطاعم رخيصة على الدوام. اعترف ذات ليلة أنه كان يبتاع -بالتقسيط- إنجيلًا عبرانيًا من القرن السادس عشر. كان أبوه غنيًا موسرًا لكنه ما أعطاه من المال إلا نزرًا. مع ذاك ما قد استطاع مقاومة ابتياع هذا الإنجيل؛ قد دفع ثلث ثمنه، وسيستتمه الشهر الآتي. حلم باللحظة التي فيها لسيمسك الإنجيل بين يديه.

حتى إثر أن قد عرفا بعضهما ثلاث أسابيع ما قد تكلما عن أي شيء سوى الإنجيل والإسلام. على الدوام حادثها عن الإله، وعن الاجتذاب الأزلي بأن مفهوم الإله محصورٌ على بني الإنسان. هي عن نفسها ما صدقت بالإله، ما اعتمل في نفسها أدنى قدر من الحاجة للتصديق بالإله. عرفت أنه كان من صدق بالإله، من اعتملت فيه الحاجة. ما صدقت أنها لستقضي ما بقي من عمرها في محل الأحذية؛ صدقت بأنها لستتزوج وتنجب. صدقت بأنها قد مُنحت فرصتها في الدنيا؛ تلك كانت السبيل التي عليها صدقت بالإله لا غير.

ولا صدق هو بالإله، إلا أن في ذلك ما كان سلوانه. كان غير عابئ بثروة أبيه؛ التي عظمت؛ قد حيزت من فلكنة الإطارات للسيارات. حكى أحيانًا عن بيته في نويي، وعن ملكية في هوسغوغ. عرفت أنهما ما كانا ليتزوجا أبدًا. ما ساءل حتى نفسه هذا السؤال.

ما قد عرفت رجلًا كمثله قط. تحدث عن محمد على نحو ما يتحدث الواحد عن أخٍ؛ خبرها عن حياة محمد، زواجه بأرملة تاجر، علاقته بماريا القبطية. عرف قصة كل واحدة من زيجات محمد الأربع عشر؛ محمد من قد اضطلع بجعل العرب موحدين. كانت إقدامة سامية؛ قد ذاد عنها محمد بسلاح في يده وبشجاعة فوقية. عندها بدت اِضطِلاعة غريبة، لكنها ما نطقت عنده بقولة. ولا خبرته أنها بعض الأحايين بلغ عندها السيل الزبى من معاونة الناس في قياس الأحذية سحابة النهار. لا؛ استبقت هاته الخواطر بينها وبين نفسها؛ ما خطر لها على أي حال أن لأي واحد بها ستكون عناية؛ وذاك عندها كأنه كان عاديًا. آخرًا اعتادت مناحيه وأساليبه، ومتى ما شاء تلاوة سور كاملات من القرآن بالعربية كانت تخليه يفعلها؛ حسبته كان مستلطفًا. أضجرها.

أتاها بزوج جوارب؛ كان رجلًا رقيق الحاشية. لكنها مذ قد راحا ينامان معًا ما قد لقيت بهجة في معاشها. ذات ليلة فهمت العلة. لستُ موائمة له؛ حدثت نفسها. كل ما فيها من أزر، كل ما فيها من ابتهاج يافع بالحياة كأنه ينقبض في حضوره وينكمش؛ ما كان لها بالأمر من حيلة. مع ذاك كانت مسرورة. فهي على نحو ما كانت مسعودة؛ حدثت نفسها بأنه تعلمت ما تعلمت لما كانت في صحبته. إلا أن هاته التي تعلمت ما أوردتها مسرة. كأنها قد عرفتها؛ ضئيلة كانت حاجتها لتعلمها. لكنها جربت أن ترضيه؛ مساءً قرأت الأناجيل؛ كما قد سألها أن تفعل. ما قاله المسيح لأمه أبكاها. أن قد صُلب في عز شبابه، أمام ناظري أمه، كان حتى أشد تقزيزًا للنفس. لكنها – ما كان خطأً منها- ما استطاعت أن تجاوز حدًا معينًا من العاطفة. ما رأيت أنه كان ربٌ؛ هذا الإنسان. رأت أنه رجلٌ قد كانت له عزمات نبيلة وبالغ نبلها؛ موته رد عليه إنسانيته، أي أنها ما كانت لتقدر على قراءة قصته من غير ورود أبيها على ذهنها، من قد مات السنة الفارطة، سحقته عربة صناعية، سنة واحدة قبل تقاعده. قد وقع به ظلم قد بدأ منذ زمن سحيق. ذاك الظلم ما قد انقطع عن وجه البسيطة قط؛ امتد في سلالات الإنسان.

أضف تعليق