توردات – غرايمهْم سويفت (قصة قصيرة)

(كيكة يوم المولد، لي فو)

سرح الدكتور كول سيارته من مرأبها، ثم توقف، على غير العادة، ليشاهد في مرآته الخلفية باب المرأب ينزلق رويدًا نازلًا والضوء فوقه يطفأ نفسه. هذه قد منحته فيما مضى رضى سخيفًا، واهيًا؛ اليوم ما كانت إلا توديعته. السيارة كانت غالية ومريحة، كما كان البيت الذي اتفق معها: فسيح، ركين، مجزر بالمرجات والخضرة، كمثل سواه في الناحية الهلالية البسيطة.

إذ انطلق بسيارته ما كان من صوت سوى قرقرة المحرك وطقطقة الحصباء، خلا -ولو أنه جواني سيارته ما استطاع سماعه- نشيد الطيور العظيم. كانت الساعة بعد السادسة صباحًا بقليل في صباح من أبريل، لكن إذ بلغت الساعة الثامنة كان لما انفك السكون العجاب. عدا الطيور. قد صارت صاخبة فوق العادة؛ كما لو أنها جاهدة عمدًا في إتيانها. إلا أن ذاك كان وهمًا. كان ذاك خلاف الصمت. منذ أقل من ساعة قد كان راقدًا في السرير، يصغي إليه ويعجب. رجلٌ وحيد في دار كبيرة، محاطًا بالطيور، مرنمته.

والطرقات -حتى الرئيسية منها- ستكون مقفرة. ستكون مقفرة قفرها في الثامنة. العبارة “بلدة أشباح” وردت بعض الأحايين للدكتور كول إذ قطع رحلته. دنيا أشباح. لسيبلغ المشفى في خمس عشر دقيقة. على العادة – متى قد انقطعت “على العادة” عن كونها الحال؟ – قد تأخذ خمس وأربعين.

إذ انعطف طالعًا من الدرب انسل ثعلب غير عابئ من خلال شعاع مصابيحه الأمامية. ذات صباح قد أحصى ست ثعالب. الطيور والثعالب. قد استعادتا العالم.

هاته الرحلة كانت وقته لا لإحصاء الثعالب وحسب بل للتفكير. أو -بالأحرى- مسلكه لذكرياته، اللاتي جاءت وافرة وعجلة، غير مطلوبة. أشباح. قد أثبت ما قيل: أن -إذ نحن مسنون- استحضارات ذاكرتنا الأول هي ما ترد إلينا الألح، فيما الوقوعات المتأخرات ترتد.

الوقوعات المتأخرت يمكن إيجازها في تعقل: زواجان، طلاق واحد، لا ولد في أيهما، وثانيهما أطول كثيرًا وذي وجه أزيد من الأول. زوجته الثانية قد كانت حب حياته؛ له قول تلك من دون تردد ولا ترو. لكنها قد كانت ميتة اليوم منذ جوز سنتين. فقدة حياته. قد ماتت عقب سنة من تقاعده ليس إلا. حتى حين قد رقدا سوية في السرير الذي فيه قد كان يرقد منفردًا، مصغيًا، إذ انفجر الصبح، إلى الطيور. قد قالت له مرة رويدًا: “يسعنا أن نفعل هاته الآن”. كما لو أن الرقود هناك سوية أبسط إنما أعظم منحة للتقاعد كان أن أتى بها. كانت.

مع خلو الطرقات أو بسببه قد أخذ يطلع أبكر مما احتاج، فيكون له عن قصد التلكؤ، بل حتى سلوك التحويلات، ليطلق دفقة الذكرى فتجري في مجراها. كانت ذكرى، لا خاطرة. ذهنه امتلأ وخفق؛ وظيفة توجيه. ابتهج ابتهاجًا مبهمًا في الطرقات الوادعات التي خلتها تحدث. تلك الكلمة -بالمثل – خطرت له. “وادعة”. في هنيهة لسيدخل في مشهد حرب.

قد قدم. أنى له ألا يفعل؟ كان في الثانية والسبعين ومتقاعدًا، لكن أنى له ألا يفعل؟ كان أخصائيًا في الأمراض التنفسية. قد تقاعد بُعيد أن قد ماتت أمه. كانت في الثانية والتسعين. منذ عقود انسلخت، عقب طلاق أبويه، كانت أمه هي من قد أرادته طبيبًا. كانت أمه من قد ادعته لنفسها حصرًا، وما قد عصى. ما قد صار طبيبًا وكفى بل-على ما تبين- علا نجمه في ميدانه. ومن ثم فقد أنجز حلم أمه، وزيادة.

عالٍ نجمه في الطب لكنه ما قد استطاع تنجيتها. أو زوجته. في سنتين كانتا كلتيهما قضيتا. امرأتا حياته.

قد قدم. ما كاد يكون خيارًا. قد قدم كمثل جندي احتياط مُستدعى. قد كانوا “أُكرموا” برجعته. لكن ما معنى ذاك كان أوسط غائلة من قبيلها؟ رتل مصابين. رتل موتى. واحدة فيها -عرفها بينًا- قد تكون نصيبه. كلهم عرفها. قد تكون من نصيب أي واحدٍ فيهم.

أما الذي ما عرفوه -إذ هو جاهد ليكون مثلًا للسلطة الرزينة- أنه الحق استحب وجوده هناك. فوجوده “ألهى الذهن” على ما يقال. شغله وأشغله.

إلا أنه الساعة ألهى الذهن على نحو غير. ما وقعت في المضيات إلى البيت. أدى “ورديته” التي قد يطول حينها، وما لأمدها تعيين. وقع على ما يؤكل. ساق إلى البيت، باطل الحس. الحمد للرب أن وسعه النوم. ما كانت إلا هنا، في ركوبات السَحر هاته، أن راجعه معاشه، من أفواته العجب. وإلا فقد رحل؛ قد لاح كأنه انقضى. والساعة فهم -قَبِل- أنه عما قريب قد ينقضي عن حق.

إذ أمسك المقود كان طفلًا ثانية. لو أن الأمر كان إحصاءً لقال على التعيين أنه كان ابن عشر. غير أنه ما تعين عليه إحصاء. كان ابن عشر.

كان ابن عشر، ولازمًا السرير كان في صبيحة مشمسة من شهر يونيو لأنه عليلًا. أبصر وجه أمه إذ هي مالت صوبه. كانت قاعدة على حرف السرير، تمسد بين الفينة والثانية قدمه المغطاة أو ركبته، وعلى أنه كان عليلًا ما لاح على محياها اعتمال انزعاج ولا أقل القليل منه. ظهر بالحبور مطبقًا بل حتى جذلٍ وأي جذل.

كانت لتكون -ماذا؟- امرأة في مطلع ثلاثيناتها ووجه الدكتور هِندرسن -الدكتور هِندرسن!- ولو أنه كان وجه طبيب ومن ثم كالحًا إلى حين، بدا بالمثل جذلًا وأي جذل. وقع هذا على الدوام لما عاد. الأطباء “عادوا” في هاته الأيام. كان ليلوح بالمدخل، ممسكًا حقيبة الطبيب التي له، زولٌ متجهم، غالب الأحايين إن ما كان يزال عليه معطفه الشتوي الأسود وآتٍ معها بأثارة من هواء بارد. إلا أنه وعلى جناح السرعة لسيرق ويصير أنيسًا، بل ومرحًا. وكم لكان عمره؟ في أواخر ثلاثيناته. “طبيب شاب”.

اليوم سيكون ميتًا لا محالة.

لكن في هذه الصبيحة ارتدى الدكتورهِندرسن بدلة صيفية خفيفة رمادية فاتحة. قعد جنب السرير على الكرسي الذي كان دأبًا يؤتى به له. ما كان من أثاث الحجرة. كانت أمه لتأتي به. الكرسي للدكتور هِندرسن! له أن يراه الآن. كان له تنجيد مخطط، أحمر على أصفر كريمي، وعرف لاحقًا أن تلك التخطيطات اسمها تخطيطات ريجنسي. كان محله في حجرة أبويه، حيث كأنه ما استعمل للقعود، لما متى نظر إليه كان على الدوام أو نحوه مسدلًا عليه من ملابس أبويه. إذن الساعة قعد الدكتور هِندرسن حيث قد اختلطت ملابس أبويه.

لكنه حتى قبل أن قعد، قبل أن قطع الحجرة، قال: “إذن يا چيمي أنت رجلٌ مسعود. كان لك أن تكون متوعكًا في ميلادك العاشر. ينعاد عليك بالفرح، إن أنا ما تأخرتُ كثيرًا. تحدثني أمك أنك أحرزت حفل ميلاد بديع. لنلقي عليك نظرة”.

قعد الطبيب على الكرسي. أمه قعدت على السرير. كانت هاته دأبًا جرايتها. ما كانت واردة فيها صورة ثانية. مسدت أمه قدمه أو ركبته وأحيانًا مالت صوبه. والدكتور هِندرسن أب عليه على منحاه في صنعته.

كل مرة راقدًا هناك قد اعتملت في ذهنه الخاطرة لكنه استبقاها في نفسه: أنهم كانوا كمثل أُسيرة. كانوا كمثل الجماعة الصغيرة التي سكنت على العادة هذا البيت. وفرضًا لو أن أبوه -من كان الساعة مشغولًا بعمل- بُدل بغتة بالدكتور هِندرسن. ألتكون شديدة؟ كان للدكتورهِندرسن مأخذ-ولو أنه وهو في العاشرة ما عرف بعد المرادف لها- في أن يكون أبويًا. أكان الدكتور هِندرسن حتى أبويًا أكثر من أبيه؟

كان وجه أمه مشرقًا باهرًا ومسرورًا، وكأنه في هاته الصبيحة رفف حواليهم جميع ضرب من غبطة مخصوصة.

عرف ما كانت. أحسها هو نفسه، مع أنه كان متوعكًا. بدا كما لو أنه الساعة قد استتم قائمة العلات التي -ولو أنها كانت علات- كانت مرغوبة مطلوبة أن تناله. كانت كمثل تكليف، تكليف قد استغرق -في حاله- عشر سنين. حياته كاملة! كل علة كانت ممتحنة، واحدة أو اثنتين كانت كريهة، لكنها في الحين نفسه مبعث فخر ومسرة غريب. الساعة قد قضاها كلها. كان محل تهنئة، وليس على يوم مولده الأخير وحسب.

وإذ رقد هناك، عليلًا، محط عناية أمه والدكتور هِندرسن التفاتهما اعتملت في نفسه جيشة سعادة. حتى الكلمة “سعيد” كانت كأنها تحوم فوقه، كمثل تشخيص الدكتور هِندرسن الذي ما أُعطي بعد، كمثل شيءٍ قد يحوم فوقه سحابة معاشه.

“طيب يا چيمي ، سأقول، بالنظر إليك، أمك أصابت. ستصير إلى تأدية عملي بعد حين. على أنه إذ العلات تكر ليست هاته في الأعسر تعيينها”.

سدد الدكتور هِندرسن صوب أمه نظرة على قد كانت لتسمى لعوب. كانت نظرة حلوة. غالبًا ما استعملت أمه الكلمة “لعوب” (عادةً في أمر ابنها): “لا تكن لعوبًا”. والساعة كانت لتكون سديدة على التعيين.

قال الدكتور هِندرسن: “حمى قرمزية. لأقول بهاته، بالمثل”.

ثم قالت أمه، في تبسم فيه مكر: “ما لم يكن في استحياء ورّد وجنتيه ليس إلا”.

ما كان للدكتور هِندرسن أن يعرف أي معنى مخصوص قد حملت هاته. لو أن أمه قد كانت ميالة للغمز لقد غمزت آنئذٍ.

أطلق الدكتور هِندرسن شبه شخرة، شبه ضحكة. “إذن ماذا عندك لتسحيي منه يا أيها الشاب؟ افغر فمك”.

وأي حذق منه. أن سأل سؤال من قبيله، ثم استبعد أسباب إجابته. طاف السؤال في الهواء إذ فحص الدكتور هِندرسن لسانه ولوزتيه.

“حمى قرمزية، لا ريب فيها. لنلقي نظرة على طفحك”.

إذ ساق الساعة بين صفوف من المنازل الشبيهة بالأضرحة تذكر كنزة منامته الصغيرة، مخططة كالكرسي، إنما بألوان أفتح. وتذكر طفحه، الإخافة التي أورده، وكيف أنه إثر زواله وبعد حين طويل وأنه صح كان جلده ما زال غريبًا وخشنًا. وذكر قائمة كاملة -التي فيها هذا في حاله كانت الأخيرة- علات الطفولة، وأسمائها التي كانت فيها طفولة وكأنها من حكاية خرافية، كما لو أنها ابتدعت للاستعمال الطفولي. حصبة، نُكاف، جدري الماء، سعال ديكي … كلها لتذاق، ثم تخلف، غالبًا أبد الدهر، كمثل أكداس من ملابس الأطفال التي ما عادت لها حاجة، كمثل مصغرات من الملابس على الكرسي في حجرة نوم أبويه.

لاقاها الأطفال في كل أوب. كانت العلات فيما مضى محفوفة بالمخاطر وما زالت في بعض الأحوال، بل وحتى قد تكون مميتة. لما كان أصغر قد كان لا يزال المرعب الحق: شلل الأطفال. ولو أن ذاك قد تُولي أمره، ذات صباح، بشكة في ذراعه. مذعرة كفاية. إلا أنه ما قد بكى. وأمه، آنئذٍ، بالمثل قد بدت على التعيين مسرورة، ولو أنه كان ضربًا ثانيًا من المسرة. بل كان حتى في عينيها طفيف بلل. قُضي كله وانقضى. تُولي أمر شلل الأطفال. وما تعين عليك حتى أن ترقد في السرير يومين. شكة في الذراع. كان معناها استحالة إصابتك به أبدًا؛ لأنه قد صار فيك، إن جاز القول. قد جربت أمه أن تبين. كان يسمى تطعيمًا.

ثعلبٌ ثانٍ. في النور الكابي لا يسعك إبصار وجوهها أو حتى فرائها المحمرة، لكنه على الدوام قد ظن أنها كانت هازئة.

قد كانت ستائر حجرته نصف مغلقة؛ علامة مرض. أُسكت فمه ثانية بإدخال المحرار. الدكتور هِندرسن معتدًا بتشخيص أمه المسبق، أخرج أدوية من حقيبته وأعطى أمه كُليمات إرشاد. حبتين لتأخذا من فورهما. كتب وصفة تكميلية. ثم أزال المحرار، نظر فيه، مسحه محاذرًا، ورده إلى أنبوب صغير مملوء بالسائل.

“حال لطيفة يا چيمي. لا تكاد تكون فيك حمى. شهدتُ ما هو أردى. ستخلص. ستصح كالمطر في أيام معدودات إن فعلت على ما تقول أمك. ولا مدرسة أقله أسبوعًا”.

ستخلص!

“أما في أمر التورد يا أيها الشاب فما لي علاج ذاك. سيكون عليك أن تتولى أمر تلك بنفسك”.

زم شفتيه، في جدية وفي نقيضها، ثم طابقًا حقيبته، قام من على كرسيه ونظر في ساعته.

“وعدتني أمك كوب شاي”.

قُدم للدكتور هِندرسن دأبًا كوب شاي.

أمه قامت بالمثل، ووقفا سوية جنب سريره، كما لو أنه كان ذريتهما. قال الدكتور هِندرسن: “ولا لعب مع صحبك. لكنك قد فعلت تلك. حفلة يوم مولد بديعة. أنت مسعود أنك ما فوتها. إني آسف أني فوتها أنا نفسي”.

ثم نزلا تحت، مخلفينه مع خاطرة أن الدكتور هِندرسن قد لا يدخل حجرة نومه ثانية أبدًا. لو أن هاته كانت العلة الأخيرة. وثم مع الخاطرة لا واخزة كثيرًا، لكنها محيرة: لم عسى الدكتور هِندرسن يكون آسفًا على تفويته حفلته؟ أقد دُعي؟

وثم مع رجعة الصورة المباغتة -إذ هو راقد في السرير- لتلك الحفلة، كل تفصيل فيها. ذكرى عمرها أسبوع ليس إلا. لكنها الساعة بعد ستين سنة وزيادة، أتتها حادة وقاطعة كأنها حديثة عهد.

تلك الحفلة! حتى حضور الدكتور هِندرسن المفترض فيها. ولو أنه لم كان عساه يكون فيها؟ لم كان عساه يكون واقفًا هناك -ضيفًا مميزًا- في جماعة الأمهات؟ ما كان في الحفلة بالغون سوى الأمهات. ما كان رجال. حفلة عصرونية كانت. كل الرجال غابوا في العمل. كل الآباء. كل الأطباء بالمثل.

لكنه كان حق. حفلة بديعة كانت. غشيته الساعة ثانية. أحسن حفلات يوم مولده؛ لأنه -مع كل ذاك- كان ابن عشر، صبي كبير، رقمين إلى اسمه. وأحسن حفلة لأنه -لكن هذه عرفها الساعة -كانت مدركة بعد فوات الأوان؛ لا علامة ولا كلمة قد أحرز آنئذٍ- في أقل من سنة لسيأخذ أبواه في عدم العيش سوية. العالم لسيتقوض.

ما كانت أمه والدكتور هِندرسن على ما قد اشتبه، بل وتمنى على نحو مُنكَر. مضت أمه بعض الأحايين لتعود الدكتور هِندرسن وحدها. لكن هاته ما كانت إلا لـ “تعود طبيبها” في عيادته. “شؤون نسائية” قد قال أبوه ذات مرة في حيرة عن هاته العودات. ثم هز كتفيه، كما لو أنه ما اكترث.

موازنًا الأمور ومستنتجًا قد تساءل لو أن هاته “الشؤون” ربما لها شأن بالأخ الصغير أو الأخت التي قد وُعد بهما فيما مضى. لكن الأكيد أن ذاك كله قد انقضى منذ أمد طويل، طويل قبل أن يبلغ عشرًا. قد أجمعت أمه على واحد وكفى. وكمثلها قد أجمع هو على كونه الواحد. كان أمه وهو. ثم قد جرؤ على الاشتباه بأن العودات قد لا تكون في أمر طبي البتة.

لكنه قد كان أبوه. قد كان الوجه الثاني. لما مضى أبوه إلى العمل ما اكتفى بعض الأحايين بالمضي إلى العمل.

ولو أن ما في هذا ما غمم حفل مولده العاشر، لا أزيد مما كان للاعتلال الذي ليناله بعد أسبوع.

حفلة بديعة في نهار صيفي بهي في الحديقة التي امتدت تحت نافذة حجرة نومه. لو أن قد قام من سرير مرضه قد كان له استجلاء مشهد حفلته. لكنه ما احتاجها: كان في ذهنه.

كما كان في ذهنه الساعة.

على المرجة تفرق ضيوفه؛ صحبه من المدرسة. قبل ساعة ليس إلا قد كانوا جميع في المدرسة والمرجة قد كانت مرجة لا غير، تستدفئ على مهل في شمس يونيو. إلا أن تحولًا قد وقع. الصبية -بما فيهم هو- قد دُسوا في أقمصة نظيفة والفتيات -أطوع ربما- في فساتين حفلات. ثم قد اجتمعوا ثانية في بيته وجعلوا المرجة ملكهم.

على السطيحة الضيقة بين البيت والمرجة انتصبت طاولة تحمل طعام وشرابًا، وحواليها تألبت الأمهات، عليهن فساتينهن للحفلات. تحت الطاولة، مخفيه مفرش طاولة يتدلى حتى الأرض، قد كان، ولو ليس حينًا طويلًا، كل ما احتاجته سلسلة ألعاب حفلات، وهداياها. كل واحد -فهم- كان ليحصل على هدايا، لكنه لسيحصد الأكثر والأحسن.

وإذن قد حدث. ما لبث ما كان على الطاولة أن نُهب – لسيحتاج مفرش الطاولة آخر الأمر غسلة محترمة- وما كان تحت حقق غرضه. صارت المرجة لا مبعثرًا عليها الأطفال وحسب بل وأوراق التغليف الممزقة والمكومة وغيرها من مخلفات الألعاب، ناهيك عن جملة من الصحون الورقية الملطخة واللزجة والأكواب، منها المُداس.

وكل هاته المهملات الفرحة كانت إشادة بجهد أمه ومشقتها. أي كد لابد تعنته ذاك النهار؛ معدة كعكات شهيات صغيرات -وواحدة كبيرة- ومعها المثلجات، الجلو، قوارير الليموناضة، دوارق ليمون وبرتقال هريس ليوضع فوقه مكعبات ثلج من الثلاجة الجديدة. في الفاصل بين رجعته من المدرسة واستفتاح هذا كله قد راقبها تعد كل شيء في بروع ما فيه ذعر، على محياها بسمة مطمئنة. أي عمل لابد عملته -تغليف كل هاته الهدايا بالمثل!!- وفي أي ظفر وأي أناة قد حصدت نتاج عملها.

في الوحدة -عما قريب لسيتضرع في سره؛ ليوكد وقاره الحتمي- لأجل رباطة جأش أمه المنشغلة قبل حفل مولده العاشر.

في آخر لحطة قد صعدت على عجل إلى حجرة نومها لتلبس فستانها للحفلة. ثم ظهرت عليها فستان كان دوامات ضخام من نوار أحمر على أبيض، وبها رائحة عطر خفيفة رقيقة. ليسيُترك فستانها النهاري على كرسي الريجنسي.

ثم أخذ جرس الباب الأمامي يرن.

أبصرها كلها الآن، إذ ساق نحو ما لم يكن حفلة البتة: الأطفال متولي أمر المرجة، النسوة في إذعان إنما في تنميق وتذويق متوليات أمر الطاولة، يوزعن الطعام والشراب ويخطون على العشب، بعضهم منتعلات كعوبًا غير موائمة، ليتولين أمر الألعاب وتوزيع الهدايا الحاسم.

أسماء بعض من أصحابه، ضيوف حفله، ردت إليه بينة، ولو أنهم ما قد خطروا على باله منذ عقود: بوبي سكوت، نيجل وِلسن، هِلن فليتشر، ويندي سيمز… هناك كانوا على المرجة. أين كانوا الساعة؟

حفل للأطفال والأمهات كلاهما، حد خفي متذبذب بين الاثنين. لكن كانت هنيهة لما الأمهات كلهن تطلبنه. جررنه عن مكان صدارته على المرجة وانتحين به. قلن قولات من قبيل: “عليك ألا تنسانا يا چيمي”. أو “دع لنا منك نصيبًا بالمثل”.

كانت السيدة سيمز من قالت تلك. “دع لنا منك نصيبًا بالمثل”. أيما كان معناها. قالتها إثر أن قذفت في فمها -تكاد تكون كاملة – واحدة من الكعكات الصغيرات، وإذ فعلتها برزت عيناها وجحظت على النحو نفسه الذي نحته ابنتها لما جربت الشيء نفسه. نفضت خطافًا فتات الكعك عن شفتيها، ثم هزت أصابعها في الهواء. كان فستانها للحفلة مطبعًا بالزهور بالمثل -فقد كانوا في حديقة – ومن غير أكمام وطوقه واسع. لما مسحت فمها وقع من النثار قطعة كبيرة في تقويرتها واختفت. أعرفت؟ آرأت أنه رأى؟ لكنها قالت بعد الهزة: “دع لنا منك نصيبًا بالمثل چيمي”. وزادت: “نحن البنات بالمثل”. إذن: كل الأمهات صرن “بنات”. كانت مربكة.

وثم قالت والذي كان حتى أزيد إرباكًا: “طيب يلا يا چيمي، عليك أن تخبرنا”. دارت عيناها حوالي المرجة المكتظة: “يسعك أن تخبرنا. أيها تستحب أكثر؟ أيها الذي تفضل؟” ثم كما لو أنها ترد نفسها قالت: “أي فستان حفلة؟” أزيد إرباكًا وأزيد. أكان قصدها – على ما قد خطر له برهة- “أي بنت؟” أم قصدت “أي فستان؟” أم كان واحدًا قصدها ونفسه؟ ليجيب أكان عليه أن يفصل البنات عن فساتينهن؟ التي كانت خاطرة. أكان عنده جواب أصلًا؟

إذ ما نطق بقولة. تخبط؛ مغناطيس ارتباك. أكانت السيدة سيمز تريده عن حق أن يختار ابنتها؛ ويندي؛ كلاهما الفستان والبنت؟ ثم أم ثانية -أكانت السيدة سكوت؟ – قاطعت: “إنه يتورد استحياءً!” أردى وأردى.

إلا أن أمه قالت على عجل وفي تلطف: “اتركنه في حاله. دعنه وشأنه. هذه حفلته”. ما كانت تأنيبًا للنسوة الأخريات؛ بل إبلاغ رقيق صغير خلصه من فوره. أحس ثانية الساعة -رجل في الثانية والسبعين من عمره وراء مقود سيارته- لمسته الحامية تطير إليه كطير.

وأقد انقطع من فوره عن تورده؟ أنى له أن يعرف؟ والراجح أنه ما عرف أحد- ولا حتى السيدة سيمز- أنه ما كان يتورد استحياءً لا من الخيار الذي أُنيط به بل من خاطرة تلك النثارة التي قد هوت في فستانها. أين قد مضت؟ ومن خاطرة أن فساتين حفلة الراشدات هاته تحف حواليه، وتلج، وتهمس، والتي قد اُرتديت في صور أعوص من التي على البنات، و- وكان في قولها شبه صحة أقله- لأجله خاصة.

لبرهة قد كان تدعيه النسوة، بل حتى حُمل على أن وقع في نفسه أنه لهن. وحُمل على إدراك أنهن كن بنات بالمثل. ولبرهة بالمثل في أعقاب تدخل أمه السحري قد كان كأنه يرى كل شيء بأعينهن. لا مشهد الحفلة وحسب، مشهد المرجة المنثور عليها الأطفال وحسب، التي ما زالت على ما يفترض صانت خياره السري، لكن كل شيء. كل شيء حواليه. لا المرجة وحسب بل ما بقي من الحديقة والحدائق المتاخمة، كل مرجاتها وتعاريشها وشلالات وردها وأشجار تفاحها وأجماتها من شجيرات الكُوبيَّة. والبيوت بما لها من أسقف أحمر تبليطها ونوافذ متلألئة، غير واحدة فيها مشرعة على مصارعها كما لو لتستدر نسمة بهيجة في هذا الظهر الساطع.

خلى عينيه تمسح الأنحاء، على نحو ما -رأى- مسحت أعينهن بين الفينة والفينة الأرجاء في تدويخ لتحطن بها. كل شيء.

البيوت -قد خُبر ذات مرة- كانت في نحو عمره. قد كانت حديثة لما انتقل أبواه. بيوت الرواد. اليوم كانت راسخة ومكينة وعمرها عشر سنوات لكن ما زال لها بهاء الحداثة. كمثله. في البيوت كانت ثلاجات حديثة، تلفازات حديثة.

ولو أنه لا جوانيها ولا برانيها حتى في هذا اليوم المشع كان الآباء كلهم، من -لكن أقد خطرت له هذه ساعتئذٍ؟ – كانوا يعملون كاديين ليدفعوا ثمنها كلها، ليستبقوا نسيج الرقي كاملًا سليمًا.

لم عسى يكون الدكتور هِندرسن أن قد دُعي؟

هنا وهناك في الحدائق كانت أشجار طوال، ضخام، أوراقها خضراء ذهبية في ضياء الظهر، أثارة من حين قد كانت هاته كلها مزارع، أوشعة وحقول. بيت مزرعة وحظائر قد كانت فيما مضى حيث كانت مدرسته الابتدائية اليوم. كان عسيرًا تصديقها.

تطلع حواليه ووسعه حتى يرى كيف عند الأمهات لا بد كانت كأنها جنة النعيم. كل ما قد رجونه مرة وحلمن به. كانت جنة النعيم. وقد أحرزنها، كما قد أحرزن أبناءهن وراقبنهم يشبون، كما قد أحرزن هاته الحفلة -لو أنه ما قد أبصرها يومئذٍ، أبصرها اليوم- تقدير مدوخ لها كلها.

أبصر أنها كانت السعادة. ماذا بعد؟ نهج- قابضًا على العجلة- من روحها الحلوة كلها. رجل في الثانية والسبعين من عمره يقود بين جنة النعيم والجحيم.

نهج وفطن أن ذاك كان اختصاصه المختار. روح الحياة. روح.

ولم نحمر ونتورد؟ لم فينا بعضٌ نزاعٌ لهذا الحرج المذاع، الذي هو نفسه داعٍ لحرج أزيد؟ ألك أن تتورد من سعادة خالصة، سفورها يداني جلدك؟ كان عارفًا بأفعال الجسد البشري، لكنه ما عرف عن احمرار الوجنتين أزيد -على ما يظهر- مما قد عرف الدكتور هِندرسن. ما كان اختصاصه. كانت غالب الظن محنة اليافع والبريء حتى. بعد حين تبّل منها. “وجنتاك محمرتان كبنت”. أو صبي.

لكنه عرف أن له هو نفسه ما زال أن ينقلب وردي الوجه من غير علة بينة. ربما كان يتورد الساعة، في سيارته، مستحضرًا توردات منذ عقود انسلخت. ولو أكنت لتتورد -كانت مفارقة- لو أنه ما كن أحد يراك؟ وعما قريب ليخفي نفسه لا في كمامة وحسب بل وفي طبقات من الملابس الوقائية. كلها لتجنب تورداته؟

أكان الفتات في ثدي السيدة سيمز، أم السؤال المستثقل الذي ألقت به عليه؟ أكانت الأرجحية الكامنة في بطن السؤال، التي ما قد لاحت قبالة بصره في إغراء حاث؟ أن الحياة نفسها قد تكون انتقاء عظيمًا من البنات. بنات! ما أبهجها. أي سعادة.

لكن لو حقت فقد كانت الآن مقضية. امرأتا حياته. وهو نفسه قد يكون دانيًا من النهاية، مع كل ما اتخذ من عناية بمعداته الوقائية.

دانيًا من النهاية و -على ما كأنها- دانٍ من البداية. عشرة. كانت ما يقال وقوعها عندما تغرق. ترى معاشك كاملًا يمر قبالتك. وكانت ما فعل المرضى -في الوحدة- لما بلغوا النهاية. قد غرقوا.

كان المستشفى الآن دانيًا. وسعه أن يرى في حدرة الطريق مدخنة محرقته الطويلة ولألأة النوافذ المنارة بضياء نهار أبريل غير متتام بعد. في أي حين قد تدافعه سيارة إسعاف وتجاوزه، بضجة مدوية معاجلة من صفارتها. ذات صباح قد جاوزته ثلاث.

في دقائق معدودات سيتعين عليه إطفاء ذاكرته. أن يجري نفسه لما كان قبالته ليس إلا. سيتعين عليه أن يطفأ حياته.

 كيف ستؤول هاته الجائحة؟ ما عرف أحدٌ. ما بين يديه إلا أن يبذل ما وسعه، في ساعات غير معدودة، في محل مكابدة عظيمة. ومخاطرة.

كان من العاملين الموشك على الانهيار، وسعه أن يبصرها. الطب النفسي ما كان مجاله بالمثل، لكنه وسعه أن يراها. كان عندهم بيوت وأسر ليتولوا أمرها، لا في ذاكرتهم وحسب. ما كان لهم قصور خاليات ذات أبواب مرآب أتوماتيكية.

قد قال زميل بهيج في واحدة من استراحتهم الخاطفة أن هاته ما كانت إلا عارضة خاطفة. الجائحة كانت عارضة خاطفة. ما كانت إلا صرفًا تمهيديًا عظيمًا عن النازلة الحق: أن الكوكب سيصير غير آهل للبشر، في قرن. ما لم تكن المعجزات مفروغ منها.

رأى ثانية الأشجار العتيقة المتلألئة، تحرس كأنها غفراء الحدائق. رأى المرجة. قد جزها أبوه خصيصًا ليلة مولده. رأى فساتين الحفلة. أبصر خزانة العلات تلك ترتدي منها الأنفس الصغيرة في أناقة أنيقة، ثم يطرح الملبوس في مسرة. رأى السيدة سيمز. كتفيها المكشوفين. رأى أمه. ورأى نفسه راقدًا في السرير بعدها بأسبوع لا أزيد، أمه تميل صوبه والدكتور هِندرسن على كرسيه.

كان بسبب الدكتور هِندرسن -كان متيقنًا منها- أن قد أرادته أمه أن يصير طبيبًا. اثنتيهما قد طلعا من حجرة نومه ونزلا تحت لأجل كوبهما من الشاي. ما وسعه إلا سماع لغط صوتيهما. لا كلمات. محادثات الراشدين. ثم قد غادر الدكتور هِندرسن.

لكنه سمع ثانية أمه تقول للدكتور هِندرسن على الكرسي المخطط: ” ما لم يكن في استحياء ورّد وجنتيه ليس إلا”، ولو مع تلك النظرة التي كان معنيًا بها، راقدًا تحت الملاءات. ومن ثم عرف -إثر أن استتم الدكتور هِندرسن تشخيصه- أنه لا بد في يوم مولده العاشر، في حفل مولده البديع أن قد نالته الحمى القرمزية.

أضف تعليق