الحمام المسروق – مارجريت دوراس (قصة قصيرة)

*پول غوغن


وصلت العجوز بوسك على الدوام في عجالة؛ كما لو أنه ما كان عندها من الوقت سعة.

من بيغيه وسعك أن ترى رأسها يطلع من على مبعدة، فوق وشيعة أشجار زعرور فصلت أرضنا عن التي لأبنائها. قطع درب ضيق هذه الوشيعة، وفي الفُرجة كانت تلة علتها وهبطتها في سرعة حركة شابة وخِفتها. ثم واصلت حذاء صف من نباتات الأرضي شوكي، رأسها محني، على ذاك الخطو المفاجئ دأبًا. كان الحال كما لو أنها لا تقدر على الإبطاء دون سقطة.

جسدها كان محنيًا عند الخصر، مرد ذاك ظهائر الشتاء الطوال التي قضتها محنية على نارها، وذراعاها النحيلتان تراوحتا إقبالًا وإدبارًا كرقاصي ساعة؛ كأنهما كانتا مفرطتا الطول الساعة، ولو أنهما قد تداعتا بالانكماش الذي طال البقية من بدنها نفسه. العجوز بوسك الفقيرة. قد صارت ما أصغرها في ختام حياتها؛ حتى أنها كانت لا تكاد تفوق نبتة أرضي شوكي طولًا.

كل مرة رأيناها قلنا: “انظروا ها هي العجوز بوسك”.

وكل مرة كنا في عجب؛ كما لو أن الوقعة كانت عجبًا لاطرادها البالغ.

قبل أن وصلت كانت لتصيح بكلمة ودودة بما قد بقي لها من صوت، والذي كان عاليًا ومزعجًا. وكنا لنرد بأصدح ما عندنا من صوت؛ كما لو أنها كانت صماء.

ما قطعنا قط العمل لنحادثها أو نصغي لها؛ ما كان إلا أنها تأتينا وتأخذ في عادية تامة بمعاونتنا في أيما كنا نصنع، وكل هذا فيما تصرف الوقت بالحديث، تخبر قصة.

غير أنها بعض الأحايين كانت لتنتحي بي جانبًا وتتمتم لي ما لم تجرؤ على لفظه جهارًا: “احكي لي متى تظنين أنكم راحلون؟”

لأنها استحبتنا حبًا جمًا عاشت في خوف من أننا قد نغادر المنطقة قبل موتها. قد رجعنا من بقعة قصية، بعيدة أيما بعد حتى أنها ما عرفت على التعيين أين، إلا أنها عرفت أن ريح دافئة هبت الساعة من خلال صنوبرات بيغيه، مريحة عظامها المسنة ومانحتها في سنها المتقدم -الذي كان جاوز الخامسة والسبعين ومضى- كفايتها من الوهم والكيد، وكمثلها فرصتها لتمضي إلى ما وراء القرية وما لها سواها. كان صحب شبابها كلهم اليوم مرضى أو عاجزون على قدرها أو أدنى ومسرورون دون صحبتها. وجب القول إن العجوز بوسك على قدر ما كانت من الطعن في السن ما قد صارت ورعة مع تقادمها في السن؛ حال غير مألوفة في الأوضاع الجاريات في هذا الشطر من البلد. لا تراها إلا في قداس منتصف الليل؛ لأنها استحبت الليل، وكمثله الاحتفالات، وعلى ما قد ما استحببتها إلا أنك لا تقدر ألا يقع في نفسك طفيف إنكار. كانت أول من تجرأ في المنطقة كلها على مداناة سبيلنا؛ على اتصال بأناس كمثلنا؛ من قد رجعوا إلى بيغيه عقب سنين طوال من الهجران.

على جهلها المهول كان ذهنها لا يزال وقادًا، ومنطويًا على صورة نقية من الفضول. كان في نفوس الناس قليل خشية منها؛ كما يخشى الواحد أولي البصيرة الجلية ومن يستبقون كل شيء، كما يخشى الواحد الحياة، بما فيها من إلهام وإيحاء، بما فيها من شعر لا يُسبر غوره. وهي علة أن اختارت جماعة نعتها بثرثرة، فيما لم تكن عن الحق إلا حالمة. قد كان في نفس أمي لها احترام فاق أيًا سواها في المحلة.

لأجلنا نحن الأطفال أتت مع المساء، الذي حملنا راجعين إلى البيت، إلا أنها كانت بالمثل العجوز التي أقفلنا أبوابنا دونها، حامين أنفسنا من ليل كأنها كانت تسحره. ما كان يزال فيها متقدًا أيما اتقاد سوى عينيها، في وجه شققته التجاعيد، كل واحدة معها خدد غائر أسود. وإن كان فذاك الوجه غير المألوف هو سمة الطعن في السن الوحيدة التي كانت فيها، وبدا كأنها لن تموت أبدًا؛ قد تكيفت مع السنين على خير ما يرام. لكن وقعة بغيضة نزلت بها؛ كانت من القصص التي لسرها هي نفسها لا محالة تخبيرها؛ لو أنها ما قد أن أبلغتها آخرها.

كانت عند هاته النافورة التي بها روت كنتها چَن بوسك ظمأها.

ما قد حظت چَن – على قولها- بطفولة حقة. فطفولتها قد صرفت في انتظار مسعور طرفًا من سلطانٍ لها؛ زواجها ما قد رد عليها هاته السنين المفقودات ولا بهجتها. مع ذاك حكمت في بيتها، ولأنها قد كانت عاجزة أمدًا طويلًا عن ممارسة سلطتها على أهلها مارستها الساعة في غير حصافة ولا رجاحة على أهل زوجها. ما كان منهم إلا أربع- العجوز، چَن، زوجها لوي، وابنهما چَان- والنصر كان عقيمًا قليلًا؛ للحق. لكن أي شأن كان لذاك! حينًا طويلًا في عيون القرية كانت الساعة تُرى سيدة المنزل.

حري بك كان أن تراها تلعب بالعجوز بوسك كما لو أنها كانت طفلًا! كانت العجوز أحذق كثيرًا من غضبة تعتريها من الأمر؛ لما عرفت أن ابنها ما كان أبدًا ليجرؤ على محاباة زوجته عليها، ولا حفيدها؛ كان ابن أربع عشر وفي ذهنه أمور ثانيات. وعليه قبلت في ابتهاج ما كان لها في المنزل. لكن كان طيب خاطرها عينًا -والذي ما كان لشيء أن يكبته- ما آذى عنجهية كنتها؛ كان الحال كما لو أن العجوز ولا سواها من له حَمَل چَن على الشك في ثباتها.

سنة فسنة صارت نبرة چَن مع العجوز أحد. نظرت فيها بعينين ضاريتين، وجهها آكله من عساه يعرف أي يأس.

لو أنك قد رأيت تلك العجوز الصغير، محبوبة أي حب، يسرة مداناتها أي يسر ما كان ليخطر ببالك أبدًا أن أحد يكرهها على ذاك النحو!

لكنك إن سألت كنتها عن حالها كانت لتقول في تنهيدة زائفة: “لا محالة إنها تتطعن في السن. أما تنبهت إلى أنها تصير قذرة؟ هي من كانت فيما مضى وضاءة على ما سمعت؟” أو “إذ كبر چّان سنعطيه حجرة النوم العلوية”. كانت لتشير إلى حجرة العجوز بوسك التي ما وطأتها قط.

وإن كان هذا كله في عيون الآخرين في القرية ظلت العجوز بوسك سيدة البيت. ولو أنها قد حولت كل ما تملك إلى أبنائها، وكانت في رضى تام أن تُطعم ويسمح لها المكوث في حُجريتها.

ذات نهار مارسي إذ أن قد أتمت عملها البيتي انطلقت چَن بوسك إلى مُلكية پِلجغان على الهضبة العالية فوق القرية.

عادة لا تسلك هذا المسار خلا في الآحاد؛ في سبيلها إلى القداس. ومن ثم كنا متفاجئين إذ بصرناها في يوم من بحر الأسبوع؛ وفوقها كانت تسير مسرعة ولا تكاد تحيي أولئك المارة بهم؛ خشية أن تؤخر على الدرب. شقت سبيلها محاذرة وعلى مهل عبر أشجار الفِصْفِصَة وسلكت الطريق الجاري في القرية. ثم راحت تتسلق التلة، سالكة الدرب الذي تلوى بين الكروم. بلغت حد الملكية الذي غلب على المنظر في نحو الساعة الحادية عشرة. وجهها كان أحمرًا من الريح، وكانت تلهث قليلًا؛ أن قد عجلت في الصعدة الطويلة.

“إذن أي ريح طيبة حملتكِ إلى صوبنا مدام بوسك؟”

لما أخذ الجميع يشيرون إلى حماتها بـ “العجوز بوسك ” قد صارت هاته المدام بوسك؛ لأنها كانت موقرة في المنطقة، لكن لأنها بالمثل أتت من قرية ثانية.

ما أجابت السؤال من فورها. إن -لما شرعت في هذه الحاجة باشرت- قد كانت الكلمات والجمل تدور في رأسها وتدوم، فقد انتظمن في الطريق. والساعة أتقنتها -حكايتها- على نحو بالثناء جدير؛ أن قد هيأتها في الطريق وأعدتها. أرادت أن تنتفع بها خير انتفاع!

إلى أين كانت ماضية؟ كانت تحمل بذرتها إلى أقصى وأبعد ما أمكن؛ لتزرعها في أخصب بقعة: على هضبة پِلجغان العالية، التي منها لسيحمل طرف الثرثرة؛ كالريح إلى ثلاث قرى مجاورات أقله. آه! كان لها مرمى سديد المدام بوسك؛ عرفت جيرانها!

“تعرفون أقاربي من الجزائر …”

عجلها وتعبها قد خلفاها مبهورة حتى أن كان عليها أن تعيد الكرة.

“تعرفون أقاربي من الجزائر، اللذين المفترض وصولهم الليلة؟ تصوروا هذا: البارحة قبل المضي إلى السرير أعددتُ زوجًا من خيار حمامي شكلًا وأسمنها؛ الخيار لهم لا غير! إذن طهوت الطيور، وضعتها في حرجة المؤن، ومضيتُ إلى السرير. في قلب الليل أسمع ضجة تحت. ألكز لوي لكزة، وننزل سوية. حتى أني خبرته أن يأتي ببارودته؛ لا تعرفون أبدًا -على ما تعرفون- مع جواز عمال السكة هؤلاء كلهم هنا ليلًا…”

كان الاثنان من آل پِلجغان مرهفين سمعيهما. اتقد بؤبؤهما كالفحم.

“وماذا أرى؟” واصلت المرأة بوسك. “خلتُ أني كنتُ أحلم! لوي وأنا انعقدت ألسنتنا، شللنا. العجوز! كانت فزعة! قاعدة على مقعدتها كانت تلتهم حمامي، بيديها الاثنتين، هكذا … كدتُ لا أتبينها؛ لاحت في اختلاف بالغ. إثر أمد طويل التفتت. جمدت لما رأتنا؛ حسبت هنيهة أنها قد تكون في صدمة. لكنها بعدئذٍ استردت رباطة جأشها وجرت فارة من الحجرة؛ جرت! إنها خفيفة الحركة، تلك العجوز، على ما تعرفان. ارتقت الدرج أربعًا أربعًا وحبست نفسها في حجرتها”.

“يا إلهي إله السماوات!” قالت امرأة پِلجغان. “لكنها كانت حاضرة الذهن أمدًا طويلًا؛ من كان ليتخيل وقعة من قبيلها!”

لكنه هو -المسيو پِلجغان – تحدث في جدية على ما استلزم الحال. “إذن انتهى أمرها، العجوز بوسك. فقدت عقلها، هكذا وحسب”.

“ما كان الحال أنا حرمناها من أي شيء” قالت المفسدة. “لكن ذات حينٍ أو ثانٍ سينال منك العمر. من المسنين من لا ينفك يحكي النهار كله، آخرون ينقلبون بخلاء. هاته جنونها سيكون سرقة الطعام وحشو نفسها حتى وما هي جوعى. طيب؛ ليس حالًا رداه بالغ؛ كان ليكون أردى في مسنا”.

لزمت العجوز بوسك حجرتها أيامًا. ولأولئك الذي فوجئوا أن ما رأوها في الأنحاء چَن بوسك قالت ضاحكة: “أوه! مع زوج الحمام ذاك أكلت ما يكفيها حاجتها يومين، العجوز المسكينة … ليس أني أستكثر عليها الطعام”.

قالت هاته مجاهرة ما يكفي لتبلغ كلماتها صعودًا حتى حجرة المسنة في العلية…

كانت العجوز بوسك في حرج.

ما قد اعتراها؟ كان حقًا أن الطعن في السن طالها آخرًا؛ على ما قالت كنتها. تشهي الحمام الشطط الذي قد اعتراها بغتة، والنحو الذي عليه التهمته؛ كحيوان؛ كانت منكوبة لا شك، والكل عرفها، الكل في بيغيه، القرية، الدنيا جمعاء عرفتها …

ما أشهاه لو أن تلك العجوز الصغير قد ماتت عندئذٍ. أي خلاص ألا تُضطر إلى التفكير بعد الآن. لكن يا ويحها …

يومان وليلتان راقبت السماء في حمق، السحاب الذي مر قبالتها، جاريًا على النحو الذي كان أطفال القرية ليجرونه في إثرها لا ريب من الآن فصاعدًا. راقبت من غير أن تبصره قمر أوسط مارس العظيم.

قاعدة أوسط حجرتها، محنيٌ ظهرها أحنى من قبل ما جرؤت حتى على تحريك رأسها؛ خشيانة انطلاق الضحك الذي أعقب كل حركاتها وأزعج مسامعها …

على قول كنتها جربت أن تسرق مرة ثانية، إلا أن كل حاجة كان مقفلًا عليها تلك الليلة؛ تخيل! ثم من الغد منهوكة العجوز سلمت نفسها للنزول؛ استغلت حينًا كان فيه البيت خلوًا، في رائعة الظهر، كمثل حيوان أرغمه جوعه على طلوع من جحره.

أخذت مقعدها ضعفًا عند النار ولزمت هناك. ولأنها مذ ذاك اليوم ما تحدثت ما كلمها أحد أيضًا؛ ابنها ما كلف نفسه عناء تمنيه مساءً طيبًا لها لما رجع من الحقول، وما لبث حفيدها أن انقطع عن تقبيلها لما رجع من المدرسة؛ لأنها ما عادت نظيفة.

أمي -في كياسة- خلت العجوز تموت من غير تجريب رؤيتها ثانية، لكنها كانت الوحيدة في فعلتها هذه. لا أحد عداها في القرية وسعه مقاومة مبهجة إلقاء أقله نظرة ثانية علليها. لسعدها كان كل ما استطاعت إلى رؤيته سبيلًا هو نارها …

قد صارت شائبة كثيرًا، كثيرًا كصحبها المسنين؛ كانت مغطاة بالرماد؛ كان رمادٌ في طيات فستانها، في شعرها، في تجاعيد بشرتها الطاعنة في السن.

متى ما أتى أحدٌ بيت بوسك وبلغ حد المطبخ -الذي كان كبيرًا ومشرقًا -كانت كنتها على الدوام تعتذر عن الركن حيث قعدت العجوز، الذي ما استطاعت قط تدبر تنظيفه.

“ولو أن لك رؤية حجرتها” تنهدت. “زريبة”.

قد انتظرت چَن حتى الخريف لتنظف المكان؛ أخذت العجوز ثماني شهور لتموت، ثماني شهور من ربيع بديع وصيف؛ كنت لتكاد تصدق أنها كانت تفعلها عن عمد. لكن في نهاية المطاف ذاك الانتظار الطويل ما كان منه إلا زيادة البهجة التي خبرتها چَن بوسك لما استطاعت آخرًا وضع كل أطمار حماتها في كداسة وسط الباحة وأشعلت بها النار؛ نار عظيمة نفشت دخانها في القرية كلها والتي كانت تذكى من حين لحين بمسعار طويل.

أضف تعليق