حب متأخر- چويس كِرول أوتس (قصة قصيرة)

(خوف، چان ديبوفيه)

كانا متزوجين من عهد قريب، كلٌ مرة ثانية إثر عيش سنين خليًا؛ كمثل مخلوقين من الرواعي من مرعيين منفصلين وجدا نفسيهما على حين غرة – من يعلم العلة- مساقين إلى الروضة نفسها ويرعيا الكلأ نفسه.

أن كانا “في غير الشباب” ولو أن الرائيين وصفوهما بـ “في صبا أخاذ” لا بد كانت قطعة باتعة من استهوائهما بعضهما البعض.

ك_ أرملة، و ت_ مطلق منذ عقد انطوى (من امرأة صارت راحلة)، كلٌ وحيد في محيط مشغول من الأصحاب والزملاء. صدقت الأرملة نفسها أفدح ضعضعة من أفاعيل الدنيا من الزوج الجديد، من صيته مؤرخًا ومثقفًا شهيرًا عزز الوقع الجماعي في النفوس أنه كان رجلًا قد أرته الدنيا منها خيرًا. هي لا غير، من كانت زوجته فيما مضى من عرفت أي مزعزعة ثقته بنفسه الزوج كان، أي معولٍ صبره كان من الذين وافقوه، الذين جاملوه، الذين أجلوه.

“فضلًا يا حبيبة. شكرًا لكِ جزيلًا لكن لا تداريني”.

هاته القولة، منطوقًا بها للزوجة سرًا، كانت ممازحة وتحذيرًا على حد سواء.

بُعيد زواجهما، وسكناهما سوية في منزل الزوج -الأكبر والأميز في منزليهما، خمس حجرات نوم فسيحات، سقف مقرمد قرميدًا داكنًا على طراز الأمريكان كرفتزمَن مع منزلة معلم وطني، على ضهرة وراء الجامعة- أيقظ الزوج الزوجة ليلًا، يحكي في نومه، أو الأحرى يجادل، يتضرع، يستجدي في نومه، في قبضة حلم منه الزوجة عسر عليها تخليصه.

أُوقظت الزوجة برجة. لا تكاد تبين من هذا المضطرب جنبها كان، ظهره العريض المتعرق ناحيتها، في سرير غير مألوف ومرتبة خشنة، قاسية ومخدة من ريش الإوز ما كانت قط لينة، في حجرة أبعادها وأركانها المنطوية فيه الظلال كانت غريبة عنها.

في رقة مست الزوجة كتف الزوج. في رقة جربت إيقاظه، راغبة عن إجفاله. “يا عزيزي؟ إنك في كابوس”.

بنفضة ألقى الزوج يد الزوجة. ما صحا غير أنه كأنه اجتحر في الحلم أغور، كما لو أنه وإذ هو آسره خصيم خفي، خفوت راغبٌ عن تخليصه. كانت الزوجة مسحورة -ولو أنها جافلة- للنحو الذي عليه قد أبلغ الزوج نفسه هيئة حمى: التيشرت والشورت اللذان لبسهما بدل البيجاما كانا منقعين كلية، وبدنه ارتعش بلفحة من حرارة محمومة، كمشعاع فيه الماء الحار المنبعث بخاره جرى متدفقًا لا غير معوق. مسحورة بالمثل من كلمات الزوج المكتومة من أثر النوم، التي كانت بينة أو تكاد. كمفردات في لسان أجنبي تشابه الإنجليزي ألصق شبه حتى لتفضي بك إلى الظن بأن معناها سيتضح أي حين.

مع ذاك ما كان أي منها. والآن قد أخذ الزوج يصر على أسنانه ويغمغم.

ظهر أنه مُضيق عليه، مهدد. قرقرة خافتة في حنجرته انقلبت أنة، استعطاف. ارتعشت ساقاه كما لو أنهما كانت تحاولان الجري وما قدرتا لأنه كاحليه كانا مقيدين.

مع ذاك ترددت الزوجة. بدا لها مذمومًا إيقاظ نائم نومًا غاطًا كُرهًا على أن على قدرها مذمومة -أو أردى- ألا يوقظ من كابوس. ذكرت الزوجة أنها لما كانت صبية قيل إن قريبًا مسنًا مات في نومه من نوبة قلبية، التي قد زعمت زوجته أن محدثها كابوس. لكن أقد يكون إيقاظ زوجته عجل النوبة القلبية؟ أم قد تكون النوبة القلبية الموشكة عجلت الكابوس؟

محاذرة هزت الزوجة كتف الزوج ثانية، هزة شديدة كفاية لتوقظه شبه متذمر.

صمت مباغت في الزوج؛ حتى نفسه المجهد أمسك، وفي لمحة كان واعيًا، متمالك نفسه في صلد كأنما في حضرة عدو.

من غير لمسه وسع الزوجة أن تحس نبض الزوج المتسارع. اهتز السرير برعبته.

“عزيزي؟ آنت على ما يرام؟ ما هذه … إنها أنا”.

و: “كنتُ في كابوس وأي كابوس. كنتُ تتحدث في نومك”.

لكن الزوج ما التفت صوبها.

ما أغرب هذا كان! الدمدمة، الاستعطاف، والأنين، والآن ما وقع منه. ليس كمثل الزوج في معاش صحوه البتة …

ما أبعده شبهًا عن زوج الزوجة الأول بالمثل، من في ست وثلاثين سنة زواج ما قد تكلم في نومه قط، ليس على هذا النحو أقله. ما أنّ أو هاج في كابوس قط.

دنوًا جنب الزوج رقدت الزوجة آملة أن تسكن نفسها، تسلو، تطمأن، لا باستفاضة في حديث بل بسلوى الحميمة والتداني؛ كما قد يطمئن الواحد طفلًا مذعورًا، مخلية الزوج يحس وجودها. يسمع نفسها، المنتظم. إنما هنا أنا. زوجتكِ التي تحبك.

في سذاجة حسبت الزوجة أن في لحظة ثانية أو اثنتين الزوج (الودود عادة، العاقل حقيقة) سيتبين الوقعة، يطرح عنه الكابوس، يلتفت ليضمه بين ذراعيه.

لكن: أقد يحتمل أن الزوج نسيها؟ إذ زواجهما كان حادثًا، ما أتى عليه سنة. حملٌ قائمتاه حمشاء، غرر على رجليه. عُرضة للضواري.

جاءت كل يوم هَبة من القبلات، خفيفة ومتقلبة كالفراشات. نكات سخيفة جرت بينهما. كلٌ كان شاكرًا الآخر. لا سيما الزوجة كانت شاكرة الزوج. إنما كم سيطول بهاته الفترة الطربة الأمد؟

أخيرًا تسرب التوتر من بدن الزوج. استرخى كتفاه؛ تنفس في انتظام أزيد. ذاهبًا في نوم على العادة.

الحمد للرب! اعتمل في نفس الزوجة انشراح بالغ، كما لو أنها قد تفادت بشق النفس الخطر.

واضعة نفسها لتقابل البراني، ناظرة في الجدار وما عليه من ظلال، شاءت أن ترتاح، شاءت أن تنام، ولو إذ ولفزعها بدأت تسمع صوت طقطقة وراءها.

متيقظة ومروعة أنصتت الزوجة. أكان هذا صوت أسنان الزوج؟

كان فكاه يرتعشان في تشنج على ما بدا. كما لو أنه كان برادنًا بردًا قارسًا، يرتعد من البرد. صوت محير أثار الشعرات في قذال الزوجة.

كرة ثانية! الدمدمة الخافتة، الفزعة، المهضومة. ما كان الزوج يقول؟ أصغت الزوجة، يقظة الآن.

الآن يقظة في بؤس. يقظة في يأس.

مجربة أن تفك رموز الكلمات المبتورة. مقاطع صوتية خشنة. كحصباء تطير في الهواء. امتلأت نفس الزوجة هولًا. آرادت عن حق معرفة ما كان الزوج يقول في نومه؟

متسائلة بالمثل إن كان حتى أخلاقيًا استراق السمع هكذا. لا سيما على زوج في حال مُعورة. كما لو أن نفسه كانت عارية.

في حياتهما نهارًا ما كانت الزوجة لتسترق السمع على الزوج ولو قد سمعته يتحدث بالهاتف مثلًا. لا سيما إن كان يحكي في مثل تأجج.

أي صورة من حديث ما خوطبت به قصدًا كانت الزوجة لتتردد في سماعه.

شق عليها أن الزوج (النائم) ما كان فيه خلا طفيف شبه من الرجل الذي عرفت، من كان ذا صوت جهير أول جهوري ونضح بسكينة ثابتة الجأش.

كان الرجل الذي عرفت ينتصب بقامة أزيد من ست أقدام، ذو كتفين عريضين، رأس شعره كثيف فضي فيه من لون النحاس توهج منحسرًا عن جبينه، عينين تغضنت في ركنيها من تبسم لازم سحابة معاشه. شِقق عريضة من شعر خشن نبتت في إبطيه، على ساعديه وساقيه، على ظهره. ما قد سمعت الزوجة هذا الرجل يستعطف أو يأنّ أو يتأوه قط.

  الرجل جنبها في السرير لاح أقصر من الرجل الذي عرفت وأغلظ بدنًا، ذو ظهر متعرق بدا ضخمًا. كأن الزوجة كانت تعرف أن بطن الزوج (النائم) سيكون رخوًا، متدليًا من أثر الجاذبية. محاشمه ستكون غليظة لكن مترهلة، الأكياس الجلدية حَمِرت، كرُّعْثَنُونتي ديك حبش غاضب.   

إذ الزوجة أصغت بدا ظاهرًا أن الزوج (النائم) كان فيما يشبه تنازعًا، فيه هو -أو صدق نفسه أنه- الظليم؛ كان يُسخر به، يُبرح، يعذب. كان يُدفع إلى خنع. أكان الزوج يستحضر تنازعًا مع واحدٍ في الجامعة؟ قد تقاعد من رئاسة قسم التاريخ بعد اثنتي عشرة سنة؛ تولٍ طويلًا أمده طولًا يستلفت أن آتاه إداري جامعي، كان ما يزال فعالًا في الجامعة والشؤون المهنية، ونشر غير مرة في حقله التاريخ الطبي.

كل هاته قد عرفتها الزوجة من آخرين. إذ أن كبر الزوج الرجولي كان بالغًا حتى أنه ما كان لينحط أبدًا إلى التباهي بإنجازاته، ولا كانت الزوجة لتأنس إن فعل.

عن زواجه السابق قلما الزوج حكى. ولا استحث الزوجة لتفصل عن معاشها قبل أن قد لقيته.

الزوجة الأولى، الراحلة كانت من ما حكى عنها إلا قلة، ولو أنها كانت أم أولاد ت البالغين، الساكنين اليوم في ولايات قصيات.

هي، الزوجة (الجديدة) كانت محجمة عن سؤال الزوج ما خص من سؤال. خجلًا، خشية أن الزوج سيؤنبها، سينزعج.

كانت شكورته شكرًا كثيرًا أن قد ألقى لها بمنجية؛ حبلًا قد أخذت به وتمسكت لنزع نفسها من حمأة اليأس الفوارة.

غير مرة ليلًا عقب وفاة زوجها الأول قد قلبت فكرها في أن تودي بحياتها. مأخوذة بالنحو: أودت بحياتها – لكن أودت بها أين؟

“عزيزي رجاءً! استيقظ“.

أخشن مما قد أرادت وكزت الزوجة براحة يدها على ظهر الزوج.

“ماذا! ما الأمر؟” صحا الزوج فجأة.

“عزيزي رجاءً إنها أنا. آنت على ما يرام؟”

وسع الزوجة سماع نفس الزوج. وسعها أن تتصور أسنانه مكشوفة في كشرة سانية، نُهير عرق دهني على وجهه.

“كنت في كوابيس رهيبات”.

تلمست لتنير مصباح جنب السرير، والتي كانت هفوة: في شدة عبس قطب الزوج جبينه معرضًا بجنبه عن الزوجة، حاجبًا عينيه الحوص عن النور كما لو أنه ما كان نور حجرة نوم خفيض الواطية؛ بصيص الحميمية الزوجية الخافت، بل فنارٌ يعمي الأبصار يوردها وجعًا.

“يا مسيح! إنها الثالثة فجرًا ألزمكِ إيقاظي؟”

“لكنك كنت في كابوس”.

“كنت في كابوس! كل مرة لعينة أحاول أن أنام فيها كنتِ توقظينني. أطفئي المصباح الملعون. عندي صحوة باكرة غدًا”.

تلهوجت الزوجة على عجل لتطفأ المصباح. أخرستها الفجأة، الكدر. ما وسعها حتى لجلجة اعتذار.

مبهوتة بما تبدى من وجه الزوج في ضياء المصباح، منقبضًا من غضب وقرف ومسحة مذلة أن هي، الزوجة، الزوجة الجديدة، قد رأته مكشوف معرى أيما كشف وأيما تعرية، مصيره عاجزًا كابوس.

المرة الأولى التي نرى فيها الآخر عاريًا: انقطاع القلب من الوجود الجسدي، النفس المادية، التي لها لا عدة تعدنا ولا تهيؤنا.

“إني آسفة، آسفة كثير الأسف. ألك أن تسامحني؟”

قد كان على الزوجة أن تتساءل أقد كان الزواج غلطة.

غلطة: أخذ شيء أو واحد على ما ليس فيه. سوء قبض.

الرجل الذي عرفته الزوجة، أو كانت لتزعم معرفته، ما قد آتى الصبيانية مسلكًا قط، الإضرار، الحمق. كان رجلًا وسيمًا سلك سبيله في كرامة، في ثقة. كان يسيرًا، دمثًا، رقيقًا. تبسط في ملبسه إنما أنق. وضع نظارة إطارها سلكي أضفت عليه طلعة شبابية، علمية لاقت بمحله في الدنيا. لو اعتمل في نفسه مأخذ كان الأرجح منه إبداء رأيه في هدوء. ذاك الرجل ما لاح على محياه أوجه ولا بها واجه. ما أبدى غضبًا، حنقًا.

كان وجه الرجل الناهض من النوم ظليمًا صرف، مُتَهِمًا. ما كان وجهًا وسيمًا بل خشنًا، لحيمًا. بشرته المحتقنة كانت متغضنة بدقائق من تجعيدات، والعينان خلو من النظارة ذات الإطار السلكي كانتا متورمتين وحمراوين حمرة عيني ثور مُخيب.

في وحش مضطرب أيما اضطراب مهلكة؛ الزوجة عرفت، وارتعدت.

كل هذا كان سخفًا! لا محالة.

ما لا يخطر على بال الواحد إلا ليلًا.

نام الزوج، الزوجة رقدت يقظة تصغي إلى نفس الزوج الثقيل. الحمد للرب هذا بدا نومًا على العادة.

الآن في هذا السكون العارض راحت الزوجة تساءل ما قد جرى. واقعٌ في نفسها أن الزوج قد لا يكون أبصرها، تبينًا.

قد بوغت بإيقاظه في خشونة؛ ما قد كان ذهنه عاملًا على التمام.

هذا كله على الجملة كان وجيهًا. هذا كان فيه سلوان، ولو أنه مُشكل: لو أن زوجي لا يبصرني، فمن إذن يرى؟

على التدريج راحت الزوجة في النوم. غبش دفيء مضبب علا ليغشاها، كطين مخلوط في الماء.

على شاطئ، في البرد، رملٌ واهٍ، كانت تجرب أن تسير حافية دون تبديل كاحل، موجة زبدية تطرق قدميها، جارفة ما لا يوصف على الرمل: قناديل بحر شفافة متمعجة، أنقليسات متلوية مبقعة ببقع غامقات، سمك منكوب ما له عيون، شلات عطنة من حمول البحر. وفي هاته التي لا توصف كانت خاطرة أن الزوج قد (محتمل) قتل المرأة الأخيرة من قد نامت على هذا السرير في البيت الذي على طراز الأمريكان كرفتزمَن على ضهرة فوق الجامعة، الذي قد صار إلى معلم في المجتمع، الذي فيه قد نظرت الزوجة من حين لحين بإعجاب وإكبار، ولو ما كان حسدًا.

هذا كان البيان! الزوج بالعينين المحتقنتين بالحنق قد أبصر امرأة ثانية في السرير. الزوجة (السابقة) لا ريب. قد قتلها في نومه في حنقة. لأنها قد أبصرته عارٍ، عليه التيشرت المنقوع بالعرق والشورت. نظرت في نفسه الفُزعة.

ما من رجل يغفر لامرأة أن رأته كسيرًا.

أقد خنقها؟ للزوج كانت يدان أولاتا بأس.

إذ أنى لزوج أن يقتل نزوة زوجة في سريرهما؟ ما كان ليطعنها أو يطلق عليها النار؛ ذاك لسيلوث الملاءات، مخليًا الدم يتسرب إلى المرتبة ويتخللها والنوابض.

إذن: الاختناق بالمثل. ذاك كان احتمالًا.

أرجح ربما من الخنق، الذي سيلزم فيه قوة، إطاقة، صبر. لزوم النظر في عيني الزوجة (المُحتضرة) إذ أعتمتا، صارتا تائهتين.

كبس واحدة من مخاد ريش الإوز هاته على وجه الزوجة. فوق الأنف والفم. شل الزوجة التي جن جنونها، المتخبطة، لا تقدر على فتح فمها لتصرخ.

لكن أي مخدة؟ أيكون ت استبقى المخدة التي بها قد خنق زوجته (الأولى)، أو يكون تخلص منها؟

لكن لا. الخاطرة كانت متعذرة، شنيعة؛ خاطرة مخدة ريش الإوز مكبوسة على وجه.

محالة، إنما أخاذة.

كيف لك أن تكون مسرفة في السخف، جحود؟ هذا الرجل نجاكِ. هذا هو الرجل الذي يحبك، من تحبين. هذا الرجل الذي نشلكِ من النسيان.

بغتة: كان الصباح.

عينا الزوجة شاخصتين، عجبى. (ما قد حل بالليل؟)

وحدها في السرير عالي القوائم. تسمع من الحمام الملحق نقر صوت المرشة.

تسمع الزوج، تحت المرشة، يدندن مع نفسه. الزوج الذي أسمى نفسه “صباحي”.

انسكب ضياء الشمس من نافذة.

إذ أن هذه سنة بياض اليوم: أيما وقع في الليل يتلاشى كمثل صورة على شاشة إذ الأنوار شُغلت.

على عجل بدلت الزوجة الملاءات المجعدة، الآسنة رائحتها. انتزعت الشراشف من السرير، شق عليها نفض مخاد ريش الإوز لتطلعها من أغطيتها القطنية المتسخة.

ثم في السطيحة الخلفية، حيث استحب الزوج أن يفطر إن طاب الطقس، أتته الزوجة بالتايمز إذ وُصلت، رفع الزوج بصره، متبسمًا لها، الجلي أنه لا يذكر من الليلة شيئًا.

 “شكرًا يا حبيبة!” قبض لعوبًا يد الزوجة، مقبلًا الراحة الرطبة.

حبيبة. عرفت الزوجة نفسها مبرأة، محبوبة.

ثم بعد غير ليلة أيقظت الزوجة كرة ثانية تمتمة حلقية خفيضة جنبها دنوًا في الظلمة. وطقطقة أسنان مرتعشات طقطقة غريبة كالصنوج.

أيقظتها رجة في عتمة حجرة غير مألوفة.

ومخدة ريش الإوز السميكة، القاسية في وثارة تحت رأس الزوجة، التي آلمت رقبتها هاته بالمثل كانت مُتوهة.

في أيام الزواج الأول قد بدلت الزوجة مخدة صغيرة في جنبتها من السرير، إلا أن الزوج قد تنبه من فوره، قد عارض في أسلوبه المُضمر، المشوب بسخرية، منتبهًا إلى أنه لما وضعت مخدة مسطحة جنب مخدة ريش الإوز البطانية المحاكة يدويًا التي غطت السرير بدت خرقاء في شكلها، لا متساوق: “كامرأة قد أزيل لها ثديٌ واحد؛ تساوق الجسد الجميل تقوض”.

استئصال ثدي! قد ضحكت الزوجة، جفلة. كان التشبيه غير وارد على بال ولا خاطر. غير أن الزوج كان يتبسم؛ الزوجة رأت. ما قصد عدا الظُرف.

الواحدة وعشرين دقيقة. قد كانا في السرير أزيد قليلًا من ساعة. تلك الليلة قد تعشيا في منزل لصحبة قديم عهدها من صحب الزوج، من قد عرفوا الزوجة الأولى لكن كانوا ودودين وبالزوجة الجديدة مرحبين. قد كانت الأمسية مجهدة للزوجة، لكن الزوج كان آنسًا على نحو ما قد رأته الزوجة منه قبلًا، يشرب أزيد من العادة؛ ولو في غير إفراط؛ إذ الزوج ما قد آتى الإفراط. ما هي إلا كأسين أو ثلاث من نبيذ أرجنتيني أحمر لذيذ (زعمًا) وجدته الزوجة لاذعًا كثيرًا. لا أن الزوجة فقهت في النبيذ كثيرًا، أحمرًا أم أبيضًا، أرجنتيني أم سواه.

قد غفى الزوج ما أن قد قصدا السرير، أما الزوجة فقد رقدت يقظة تقلب فكرها في الأمسية، على نحو ما قد يعيد الواحد مقطع فيدو آملًا أن يرصد ما استدق من تفاصيل قد جاوزها النظر أول مرة، مبصرة ثانية المضيفين الأليفين يتبادلان النظر لما كانت الزوجة تتحدث كما لو أنهما -واردة ومحتملة- كانا يقارنان الزوجة الجديدة بالزوجة السابقة، الراحلة، التي قد عرفاها سنينًا. أما ما اعتمل في نفسهما من الزوجة الجديدة، ما كان معنى نظراتهما فما قد كان عند الزوجة منه علم ولا خبر.

“أتظن صحبك استحبوني؟” قد جرؤت الزوجة على السؤال في السيارة إذ ساقهما الزوج إلى البيت، ولو أنها عرفت أن السؤال لسيحرج الزوج أو يزعجه، الذي ما استحب أن تبدي زوجته حاجة، أو أسى، أو سذاجة مراوغة؛ والزوج قد ضحك، لا في غير تلطف، قائلًا في شدة: “لا محالة! لا محالة فعلوا”.

لكن غير متوسعٍ في الأمر. غير مستحثٍ الزوجة على الاستزادة في أسئلة حمقاء. غير سائلٍ الزوجة إن هي قد استحبت صحبه، أو قد استطابت الأمسية، أو أملت أن تكررها.

صحبها الزوجة ما كانت حريصة على تعريفهم بالزوج. فالأصحاب الذين قد عرفت في زواجها الذي امتد ست وثلاثين سنة ما كأنهم كانوا عندها يدانون ما في نفسها من عناية بالغة بصحب الزوج (الجديد)، ولا أبدى الزوج (الجديد) أي حرص أو تلهف للقائهم.

رقدت الزوجة يقظة تعذب نفسها بمثل هاته الخواطر. كبراغيث أو بق فراش الخواطر المتقافزة التي كانت غير ذات شأن واخزة، منغصة. على التدريج تهادت إلى النوم، هابطة درجًا ومتعثرة بالدرجة الأخيرة، التي ما قد رأتها على نحو ما لأن ذباب أزازًا قد شتتها؛ ذباب خيلٍ صاخب، وبغتة رُجت فأيقظها شخص، حضور، على مقربة منها في الظلمة، زولٌ جسيم يُثقل شطره من السرير، يتمتم بينه وبين نفسه، يصر على أسنانه كأنها صنوج، يحرك ساقيه في تخبط كما لو أنه علق في شبكة أو نسج عنكبوت؛ ما أفزع الزوجة أعظم مما قد كانت فيه من فزع قبلًا؛ إذ سيكون عليها الآن أن تقر بأن هاته “الكوابيس” كانت متواترة في حياة الزوج الليلة، وعليه ستكون في حياتها الليلة بالمثل.

سدرة تفكر: لكن بمن تزوجت؟

في النهارات التي وقعت خلل أول ليلة من النوم المنقطع ما قد كان تبدلٌ مشهود في الزوج، من قد في عطف ومودة على حاله قبل. لا ذكرى، لا أثر للفاصل النحس حل بينهما. الزوجة أحست شكة دوار، تكاد تكون غثيانًا مشاهدة فم الزوج إذ حادثها في مأتاه مأتى الزوج الرقيق الحاشية، ومستحضرة تكشيرة الرجل الذي ناله نور المصباح الشرسة، الحرارة الناضحة، العرق، رائحة الإبطين، شعر المنفرج، الروائح البهيمية النتنة، ولو أن الزوج في وضح النهار كان حديثٌ استحمامه، حديثة حلاقته، شعره الفضي النحاسي سبط خلا هامته، عيناه كزجاج أزرق فاتح لا لبس فيه، صافية السريرة. كان لسيلزم جهد الذاكرة لاستحضار العينين المحتقنتين بالدم تقدحان شرر الحنق صوبها في نور المصباح، ولأي حاجة أو غرض مثل هذا الجهد؟

ولا قد أتت الزوجة على ذكر أمر “كوابيس” الزوج؛ لا محالة لا.

الزوجة ما كانت عروسًا ساذجة شابة بل امرأة في أوسط عمرها عرفت حق المعرفة ألا تسهب في الشؤون المزعجات، لا سيما لما كانت زوجة جديدة لا تبتغي إلا إرضاء زوجها الجديد.

عقب أن قد قضى زوجها الأول، مخليها لتجيل الرأي في إمكانية القضاء على حياتها قد مُنحت فرصة ثانية. لو أنها أصابت في إسعاد هذا الرجل ستنجي نفسها ومعها نفسه بالمثل. سقطة وأي سقطة قد كانت تشغيل ذاك المصباح الثالثة فجرًا!

والآن كانت تراعي في محاذرة كل أتية تأتيها. ما قد نطقت بكلمة في أمر ليلة الكابوس تلك للزوج. الحق: قد نسيتها، أو كادت.

حلم مبهم سخيف من أحلامها فيه مخدة ريش إوز، كيف لمخدة ثقيلة أيما ثقل قد تُكبس على وجه..

وجهها؟ مسخرة.

ولا قد استفسرت الزوجة عن موتة زوجة الزوج السابقة ولا ساءلت. الزوجة ما قد حتى جربت بحثًا على الإنترنت عن نعية الزوجة السابقة. إذ لا أسخف سخافة سقيمة من اشتباه في الزوج: بأيما كان…

الزوج كان يأن في نومه؛ كما لو أنه عرف حق المعرفة ما كانت الزوجة تشتبه به فيه. صيحات قصيرات، باعثات على الشفقة، نادمات، جريحات. يبدل كتفيه من جنبة لجنبة؛ كما لو أنه يجرب تحرير نفسه من تقييد ما خوله خلا قدر بوصة ليتحرك فيها أو اثنتين: الزوجة تراءى لها كابوس كنسج عنكبوت فيه الزوج كان عالقًا كحشرة؛ كلما زاد في تلويه زاد نشوبه وتعقده، والزوجة راقدة على مقربة جنبه في السرير المبعثرة أغطيته، في خطر عاجل من أن تعلق في الشبكة ومثله أن يلتهمها: ماذا؟

كان قلب الزوجة ينبض نبضًا شديدًا، ترقب صحية الزوج. إيقاظه وتحمل سخطه. إذ أنها حسبت أن ما لها من خيار: وسعها أن ترى أن الزوج في فزعته، كسرته كان يكابد.

حيوان ضريب معميه الألم قد ينفلت من عقاله، ينشب مخالبه، وينهش.

في ارتعاش وارتجاف رفعت الزوجة يدًا لتمس كتف الزوج. التفت ظهر الزوج صوبها. ما وسعها إلا تصور وجهه، العينين والاحمرار حواليهما، الفم متمعج في كرب. اعتمل فيها اضطراب سابق مرتقب، أو ارتياع، كما لو أنها توشك ومع ما كان من حسن نيتها أن تهوي من على شفا هاوية.

قولة مأثورة من أقوال پاسكال خطرت لها: نجري إلى الهاوية في طيش إثر أن حططنا قبالتنا ما يمنعنا من إبصارها.

” يا حبيب؟ رجاءً استيقظ!”

هازة كتفه. مرة، اثنتين.

صحا الزوج ونخر، يقظًا في لمحة تنبه.

“آنت على ما يرام؟ كنتَ في …”

كان الزوجة في قلق من ألا يبين منها اتهام بل طمأنة، صون.

“كابوس …”

غير أن الزوج أنكرها، في حدة وانفعال.

“يلعن. ما كنتُ. ما كنتُ نائمًا”.

كان وقع صوته وقع اليقظ الواعي الآن، ومنزعجًا أيما انزعاج. كانت هي من في كابوس، تأن في نومها وعلى أسنانها تصر.

تأن في نومها! نومها!

عزمت الزوجة ألا تجادل. سينال الزوج بغيته كما قد يفعل طفل، في ظروف لخبطته وضيقته.

“أنا- أنا آسفة. ما فطنت”.

موبخة ما استطاعت الزوجة إلى التراجع سبيلًا.

(إذ أنها واردة على الدوام أننا لو تراجعنا، لو اعتذرنا، لو أننا اقتنعنا بنكران ذواتنا أن من كان في غضبٍ منا قد معه ينخدع فيشفق علينا)

هو مرعوب. سينفلت من عقاله. لا تتهميه.

أيما قد كان يبرح الزوج تلاشى عاجلًا إذ وعى. كان ذاك سلوانًا أقله.

مرت دقائق معدودات رقد فيها الزوجة والزوج في صمت جنبًا إلى جنب من غير تلامس. تراوح الزوج بين النقمة، الكره. عاجزًا عن الإقرار بأنه قد كان في قبضة كابوس، ولو أنه لا بد تساءل عن علة تبلل تيشرته وشورته بالعرق.

ثم بغتة وقف، يؤرجح ساقيه براني السرير ويرفع نفسه صعدًا على قدميه. في تلك اللحظة كان الزوج بليدًا، أخرقًا على نحو ما قد رأته الزوجة منه قبلًا قط.

أما لما الزوج أخذ على العادة حذره ألا يقض مضجع الزوجة إن هو اضُطر لقصد الحمام ليلًا كان الساعة لا يبالي في جلف بحضرتها، يشق سبيله في الحجرة متوانيًا ولا يكلف نفسه عناء ردّ باب الحمام؛ مروحة الحمام دقت في صخب، نور الحمام سطع، بال الزوج في مقعد المرحاض لما بدا كأنه دهر فيما رقدت الزوجة يقظة في بؤس وآخرًا ضغطت راحتي يدها فوق أذنيها تفكر: نسيني! نسي أن له زوجة (حية)!

لما الزوج رجع -مخليًا نور الحمام مضاءً- كأنما هوى على السرير هويانًا، جاعلًا النوابض تصر في احتجاج. كأنما غفا من فوره؛ نفسه الأجش يطلع في نوبات طويلات، بطيئات.

تألمت الزوجة كأنما خداها قد صُفعا.

لكن ما كان لها من خيار غير أن تفارق السرير وتطفأ نور الحمام (الذي سيطفأ فوقها المروحة المزعجة). جافلة من غلظة الزوج ولو أنها حاولت أن تخبر نفسها أنه البين ما كان واعيًا؛ واردًا كان أن قد سار في نومه ومن ثم فما كان ليلام على سوء خلقه.

الحق كان: لو أن الزوج قد كان واعيًا لكان بُهت وتحير من سلوكه.

في الحمام الزوجة أغلقت الباب. قد بددت المروحة أقله بعضًا من هواء الحجرة العطن؛ رائحة الذعر التي انبثقت من جلد الزوج.

شادة أزر نفسها مما قد ترى نظرت الزوجة في انعكاسها في المرآة فوق المغسلة. هناك طفا وجه شاحب، مجهد، شبيه بقناع لامرأة أفزعها أن زوجها قد ما عاد يحبها وأن الأذى قد يطالها تبعة.

تبرد وجهه بماء بارد اغترفته بيدين مرتعشتين فطنت أن حدقتيها في المرآة ظهرتا متوسعتين على غير الطبيعة؛ كعيني حيوان ضارٍ.

ثم رأت في المغسلة حلقة غامقة ملطخة حوالي المصرف، كما لو أن شيئًا دُهني قد شطف. كانت رائحة قذرة بالمثل، كما لو أنها من بالوعة.

ثم رأت على أرضية الحمام، في ركن جنب المغسلة، شيئًا أسودًا أرقطًا كبزاقة كبيرة، نحو ثلاث بوصات طولًا، له عينان ضئيلتان بنيتان صفراوان؛ إذ دنت ببصرها أدنى انزلق المخلوق تحت المغسلة واختفى في الحقين.

حافية وثبت الزوجة راجعة. ما كان ذاك! كتمت صيحة فزع.

مستحضرة أن نظرت في الكتب في مكتب الزوج، في مكتبة ملأى بالمؤلفات الطبية القديمة. كتب عتاق حتى أنها تفسخت بين يديها. سجلات الطب الأول، الفصد، نقب الجمجمة، رسومات لمسالك وحشية فنت منذ أزل من المراس الطبي …

لا علم لها لما كانت تتذكر كتب الزوج القديمة هاته الساعة. كانت متعبة تعبًا شديدًا، ذهنها مشوش.

إذ أنها كانت قرابة الثالثة فجرًا. ينبغي أن تنام!

ما رجعت إلى السرير لترقد جنب الزوج الشاخر بل انسلت في سكات من الحجرة وشقت طريقها إلى حجرة ضيوف، إلى سرير أصغر حيث قد تنام لا يزعزع نومها، في حجرة كانت غير مألوفة عندها بالمثل، إنما غير مفزعة أو مزعجة، حجرة فيها قد تكون لسعدها وحدها.

هاته الحجرة والتي حجمها نصف حجم الحجرة الرئيسية قد كانت لابنة الزوج لما الابنة قد سكنت البيت؛ منذ سنين انفرطت.

طالبة النوم -متقطعًا- قطعت الزوجة جدولًا جاريًا على حجارة مداسة كانت متقلقلة تحت قدميها؛ تحتها، في الماء، أسراب من مخلوقات صغيرات غامقات كالبزاق تحينت قدميها الحافيتين أن تزلقا.

قبل البُلجة تصحو في أوانها لترجع في سُكات إلى الزوج، لتنزلق في السرير جنبه إذ يرقد نائمًا، معتملًا في صدرها انشراح بالغ أن قد رجعت من غير أن يفطن الزوج أنه كانت قد مضت.

إذ أن الزوجة عرفت أن الزوج لسيعز عليه إن أدرك أنها قد زحفت طالعة خشيانته، نفورًا منه.

مراوغة ترقد الزوجة دانية قبالة ظهر الزوج؛ كما قد يجثم الواحد قبالة جدار وِقاءٍ.

وثم كان الصباح. ضياء الشمس بين شرائح الستارة المعدنية كضمادات شاش حامية.

لاحت عجاب عند الزوجة أن قد غفت في يسر في السرير عالي القوائم، جنب الزوج. قد فعلت!

وأريح نوم، وأشده استردادًا في معاشها.

تصحو الآن وحيدة في السرير، تسمع الزوج يدندن لنفسه تحت المرشة، صوت المرشة غير مزعج بل يسكن النفس. مراعاة للزوجة قد غلّق الزوج باب الحمام.

لا محالة أحبت الزوجة هذا الزوج. حبًا راسخًا، لا مساءلة فيه.

لستبدل الملاءات، تفتح نافذة، وتهوي الحجرة المعطنة رائحتها، السرير الزريبة. لكن في غير عجالة. عقب أن قد طلع الزوج لنهاره.

قبل تلك على السطيحة الخلفية على العادة تأتي الزوجة بالتايمز له ما أن تُوصل. “شكرًا يا حبيبة!” قال الزوج، باسمًا.

كما لو أنه ما قد وقعت أي وقعة غريبة شاذة ليلًا لتقلب القلوب.

كما لو أن الزوج ما قد أراد أن يقتل الزوجة، الزوجة فزعت لروحها.

إذ أن لزوج أن ينسى في يسر، الزوجة كانت عازمة على أن تنسى أيضًا.

وإن كان ذاك المساء ساعة العشاء سمعت الزوجة نفسها تقول للزوج كأنما نزوة: “يظهر أنك ترى أحلام مستكرهات مؤخرًا”. ناوية أن تكون شفيقة لا مُتهِمة البتة.

في حدة رد الزوج، عابسًا: “آفعل؟ لا أظنها”.

“ألا تذكر؟”

” “أذكر” ماذا؟”

“حلم مستكره راودك ليلة الأمس؟ كابوس؟”

“”حلم مستكره؟” أطفل أنا لتراودني “أحلام مستكرهة”؟”

بسم الزوج للزوجة في صبر كما لو أنه يسايره.

ردت الزوجة التبسم في فروغ من قصد، غير مهتدية إلى كيفية المواصلة. غير عارفة لم قد أتت على ذكر هذا الأمر لما (كانت متيقنة) قد عزمت ألا تفعل.

“أنا … كنتُ أتساءل لو … لو أن شيئًا…”

تناقصت كُليمات الزوجة في ضعف. أوه، لم قد أتت على ذكر الأمر!

الزوج كان يراقبها بنظرة ساخرة كأب قد يراقب طفلًا يتخبط وبشيء يخبط يسير تفاديه لو أن الطفل نظر أين كان يسير لا أكثر.

“إيه يا حبيبة؟ كنتِ تتساءلين عن؟”

“لو أن في خاطرك كان شيءٌ، لو … لعلك تريد الحديث عنه”.

” “الحديث عنه” معك؟”

“لم عساك لا تتحدث عنه معي؟ إني زوجتك” كانت الزوجة فزعة على حين غرة.

(أكانت زوجة هذا الرجل؟ كيف قد وقع ذاك؟)

انثالت الخواطر في ذهن الزوجة. ما قد أرادت إلا عطفًا على الزوج، طمأنته، لو أنه كان في ضيق من شيء، لو كانت خواطر مغمات تعرض لنومه؛ كانت في جنبه.

 مجربة ثانية، في صوت رقيق، عاطف ما كان في لوم البتة قال: “مؤخرًا ظهر أنه تراودك منامات مقلقلات. أيقظتك __”

“أيقظني أنتِ، على ما أذكر. البارحة”.

“كانت تراودك كوابيس”.

“كانت تراودك أنتِ كوابيس. توقظيننا اثنينا”.

صمتت الزوجة. أحست كما لو أن حشرات ضخام حاصرتها تطن حوالي رأسها، لكن ما كان إلا الزوج يتحدث في صبر، كما لو أنه يخاطب على التعيين طالبًا بطيئًا.

“تذكري يا حبيبية: المنامات سراب، وهم. زائلة. سخيفة. رأى أرسطو أن المنامات ما هي إلا آثار النهار انهالت في صورة جديد ما لها عظيم قدر. پاسكال رأى أن الحياة كانت “منام أدنى تقلبًا قليلًا”. فرويد رأى أن المنامات كانت “تلبية رغبة”؛ والتي لا تبين لنا البتة شيئًا لو أنكِ استجليتِ العبارة. غير أن الكل يوافق على أن المنامات واهية، وعليه لا يُعبأ بها. تسخفين نفسك إن رحت تجربين فك مستغلقها”.

أرادت الزوجة أن تعترض؛ ما كانت مناماتها التي عنها تحكي بل مناماته.

ما كان ما لا يُعبأ به في الكوابيس التي كانت تعتريك.

لكنها فهمت أن الزوج هاب الأمر، وعلى عجل أسقطته.

كلاعب لا يتعلم اللعبة إلا في مناوشة الملعب لستتعلم الزوجة فك أغلق ما استغلق من أطوار الزوج. لستتعلم الزوجة توقع كوابيس الزوجة قبل أن يرزح لها. لستتعلم الزوجة كيف تحمي نفسها.

ما لبثت أن اكتشفت أن الزوجة الأولى (الراحلة) ما لها سيرة ولا تاريخ.

لا معرفة عنها على الإنترنت. لا نعية. لما طبعت اسم الزوجة السابقة طلعت رسالة فظة على شاشة الكمبيوتر بخط أزرق:

هذا الموقع أُوقف لانتهاك شروط الخدمة أو لسياسيات البرنامج. عرض هذا المحتوى محظور.

أرادت الزوجة أن تعترض. الاسم الذي طبعته ما كان موقعًا بل إنسان؛ امرأة!

إنما عند من عسى الزوجة تعترض؟ كم محرك بحث جربت ولا فرق، كلما طبعت اسم الزوجة السابقة ظهرت الرسالة نفسها: أُوقف.

لكن أنى كانت معقولة أن ما لزوجة الزوج السابقة أي سيرة أو تاريخ؟

لما الزوجة الجديدة سألت عن الزوجة السابقة لقيت وجوهًا خلاء خلو مناديل.

ألڤيرا من أتت كل جمعة لتنظف البيت؛ على ما قد فعلت الخمس والعشرين سنة الفارطة، ضحكت في اضطراب لما الزوجة سألتها عن الزوجة السابقة (“ألقيتيها بعد الطلاق؟ أتعرفين أي علة كانت فيها، ما أتى بموتها؟ كم طال الأمد بعد الطلاق حتى ماتت؟”) متقهقرة، جارة المكنسة مع قولتها: “آسفة، لا أفهم!”(بالإسبانية في الأصل)

(الذي ما هو بحق كان؛ إذ الزوجة قد تسمعت ألڤيرا تحادث بالإنجليزية الزوج. مع الزوجة لا غير تحدثت بما يشبه نصف إنجليزية، نصف إسبانية؛ كطفل ما أراد أن يكون له طرف في حديث قد يكون).

في متجر البقالة لقيت بدون وعد ولا قصد صديقة زوجها ألكسندرا، من لاحت بادئًا ودودة ودًا كافيًا لكنها انقلبت منقبضة المحيا ومرواغة لما – تعريضًا وأشد ما يكون من تعريض- عرضت الزوجة بزوجة الزوج السابقة. “آسفة، أنا في عجلة. ساعة ثانية ربما!”؛ دافعة على عجالة عربة تسوقها لتمضي إذ أتبعتها الزوجة نظرها، مبهوتة من فظاظة المرأة.

مرة واحدة لا غير لقيت الزوجة أبناء الزوج الكبار؛ من كانوا (في واقع الحال) ربائبها؛ وأي إرباك وأي بليلة أن يكون لك ربائب كبار من ما عرفتهم إلا في الندرة. حتى مع ابنة الزوج البالغة من العمر أربعين سنة من الزوجة وبينها أحست ألفة غير مؤكدة ترددت في السؤال عن الزوجة (السابقة)؛ من كانت أم الابنة، متهيبة شدهة الابنة (الربيبة)، عينيها الباردتين. ألا تستحين؟ من أنتِ؟ انصرفي، لن نحبكِ أبدًا.

ما كانت الزوجة لتجازف بها. ما كانت لتجازف بأن تخبر الابنة الزوج، وأي انزعاج لسيكون فيه الزوج، أو أردى.

لم تسألين ابنتي أسئلة من هذا القبيل؟ من أنتِ لتسألي مثل هذه الأسئلة؟

في الأسابيع الأول من علاقتهما قد أبان الزوج للزوجة أن الماضي -عنده- ما كان محلًا سارًا، ولا كان محلًا “خصبًا” أو “ولادًا”؛ وتلك كانت علة انكبابه بنفسه على عمله وتحقيقه لنفسه “نزر نجاح” لكنه كان بالمثل علة استحبابه العيش في الزمن المضارع.

“والذي هو علة حبي ياك يا حبيبة. أنتِ المستقبل عندي. زواج جديد هو استفتاحة جديدة تستلزم تقويمًا جديدًا”.

قد كانت الزوجة من هذا في طرب بالغ، في شكر بالغ. قد كانت بالحب فاترة.

ما لبثت بعدئذٍ أخذت الزوجة تنسى شقات عريضات من معاشها: أين هي ووزجها (الأول) قد سكنا عينًا؛ في حي سكني في “مسطحات” المدينة الجامعية، كم قد مضى منذ قد توفي زوجها (الأول)، وكم مذ قد تعارفا، أين كان تحديدًا أثاث بيتها السابق، الذي قد اُضطرت لوضعه في مخزن لما انتقلت إلى منزل الزوج (الجديد). نصف دزينة من الصناديق كدست فيها أعز كتب الزوجة قد خُزنت في سرب منزل الزوج (الجديد)، غير أنها لما قد فتشت عن الصناديق ما استطاعت العثور عليها، وسط فوضى من صحاحير أشرطة لاصقة، أثاث وأجهزة منزل مهجورة، تلفازات قديمة، ميكروفات.

تتجول في سرب بيت غير مألوف، عاجزة بضع دقائق محمومات عن الاهتداء إلى الدرج المفضي إلى فوق قد راح يعسر على الزوجة التنفس.

زواج جديد هو استفتاحة جديدة. تقويم جديد.

ما هذا؟ نخز غريب في أنف الزوجة ووجنتيها، نفس الإحساس في جلد إبطيها الرقيق، في ثديها، معدتها، دواخل فخذيها. حكة، لذع، ليس في غير مسرة جملة. تحاول في ضعف طرد الإحساس عنها، تحاول لمس أنفها، حيث هو على أشده، إلا أنها لا تقدر لأن ذراعيها مشلولة.

النجدة! ساعدوني!

تبكي، تعول؛ إنما في صمت. فمها يتحرك في غرابة وتشوه، ينفرج واسعًا، حرف O منفغر، فكاها يصطكان، يتشنجان. تحاول تحريك ذراعيها، يديها: خدر رهيب انتشر في أطرافها، أحالها عاطلة. في يأس تدبر قلب رأسها إلى صوب، ثم إلى الصوب الثاني: تقلب رأسها من جنبة إلى جنبة لتزيح عن وجهها شيئًا، عن أنفها، الذي صار يقرص أشد؛ موجعًا.

صاحية بغتة، من نومٍ غافٍ. يروح ذهنه المكدود يقعقع كآلة منفلتة.

“ساعدوني! رجاءً!”

ثم ما هو على أنفه ووجنتيها، عشش مستفحلًا في إبطيها.

بكل ما أُوتيت من قوة تتدبر الزوجة خطو متخبطًا من السرير وإلى الحمام، تتلهوج لإشعال النور، ترى ويا رعبها في المرآة فوق المغسلة ما هو عالق بأنفها؛ لزج – غامق، في بدانة، مطاطي، حي: أهو علقة؟

نصف دزينة من العلقات على وجهها، على الجانب التحتاني من فكها، حنجرتها …

تصرخ، ممزقة بأظافرها العلقة اللازقة بأنفها حتى تنزعها عنها، منتفخة بدمها. يهوي الشيء دائخًا ومتلويًا على الأرضية. أنفها أحمر حيث أسنان العلقة الضئيلة انغرست في بشرتها، وجنتاها مبقعة بقطرات دم. محمومة بالرعب وبالجحود، تخمش إبطيها، وثدييها. علقات زيادة تسقط على الأرضية، حيث يسيل منها دم؛ دمها.

ما رأت الزوجة قط علقة. ليس علقة حية. صور علقات ليس إلا. في كتب تاريخ الطب، في مكتب زوجها. غير أنها تتعرف هذا البزاق ماص الدماء. مبغوتة، مفرطة في تنفسها، مبهور نفسها. مرعوبة من أن يغشى عليها. انقلبت عظامها سائلة، تخر على الأرضية، حيث دزينات من العلقات تتثنى، تتحين الانقضاض عليها كرة ثانية.

في تلك اللحظة يسطع النور في الحجرة.

شبه مغشي بصرها إذ ينادي الزوج باسمها. يهز كتفيها. يحادثها في مسيس: “استيقظي يا حبية! استيقظي!” وهي خالصة؛ هي صاحية. لا في الحمام بل على السرير. على السرير عالي القوائم حيث كانت (جليًا) تنام. منقذها الزوج من كابوس رهيب.

الزوج وجهه متغضن في قلق يسأل الزوجة عما كانت ترى في منامها. ما الذي أفزعها فزعًا بالغًا؟ لكن الزوجة عن الكلام عاجزة؛ لما تزل في قبض الكابوس، حنجرتها مسدودة.

لا نية في تخبير الزوج بشأن العلقات، لا نية في لفظ الكلمة القبيحة علنًا: علقة.

على التدريج، بين ذراعي الزوج غفت الزوجة المنهوكة.

لا تتخلي عني! ما لك من أحد سواكِ.

تتحدث الزوجة السابقة قي وهن واهن حتى أن الزوجة الجديدة لا تكاد تسمع.

خالية بالمنزل في السرب الأغبش في نوره، مفتشة عن كتبها العزيزة المفقودة لكن أيضًا عن (واردة؟ محتملة؟) محل مواراة الزوجة السابقة.

ساعات من الجولان في السرب. فيما الزوج غائب.

الكثير من صناديق الأشرطة اللاصقة! الكثير من الحقاب المغلقة، مكدسة في ركن!

كان على الزوجة الجديدة التسليم بأنه لو كان رفات الزوجة السابقة مخبأ في بقعة ما من هذا المرقد الفسيح التحت أرضي فإنها هي الزوجة الجديدة غير وارد أبدًا أن تعينها: الزوج وارى آثاره في حيلة واسعة وحذق.

نَفْس الزوج نهارًا هي خير ذريعة لنفس الزوج ليلًا. من خلا الزوجة ليحزر؟

حزرت الزوجة الجديدة بالمثل أن الزوج لابد خدر الزوجة السابقة، ومن ثم إذ كبس وسادة ريش الإوز على وجه المرأة كانت في صدمة بالغ وضعف بالغ لتخلص نفسها.

في ضعف بالغ لتخلص نفسها، ناهيك عن غلبة زوجٍ أشد بأسًا وقوة.

لا تغلطي غلطي. لا تثقي بالحب.

اقصدي خزانة الأدوية حيث حبوب تاريخها سنوات ماضيات. انتقي أشد المنومات. اطحني هاته حتى تصير دُقاقًا.

اخلطي هذا الدُقاق الأبيض بطعامه. طبق كثير بهاره يوصى به.

انتظري بعدها حتى يغفو وينام. اصبري. لا تتعجلي قبل أن تجرؤي على وضع مخدة ريش الإوز على وجهه وتكبيسها بكل ما أوتيت من قوة.

وإذ كبست بكل ما أوتيت من قوة لا تليني ولا تتراخي. لا ترحمي! أو سينشط، وسيقتلـكِ.

صيري العدو عاجزًا؛ إذ أن الدفاع عن النفس هو قانون الطبيعة الأول.

لكن الليالي التلو ليالٍ من المنامات خلو. على قد ما يسع الزوجة الاستحضار.

ثم نائمة في احتراس ذات ليلة ترى (جلية بعينين مزررة) الزوج يقارب السرير الذي عليه هي -الزوجة- نائمة.

أواخر الليل. ليلة ما فيها قمر. مع ذاك ترى الزوجة كيف يقارب الزوج جنبتها من السرير خلسة، في صبر وخداع؛ كيف يبتسم لها من علٍ، الزوجة (المخدرة)، كيف يتبسم في توقع وتحين ما سيفعل بها، ابتسامة ضارية ما رأت الزوجة مثلها قبلًا قط، ولما الزوج يبت أن الزوجة (المخدرة) لن تستفيق يطلع من حاوية أولى المخلوقات اللزجة السوداء؛ علقة تتلوى طولها نحو ثلاث بوصات، وفي رفق يضعها على أنف الزوجة.

في حالتها المخدورة، فاقدة الحس لا تقدر الزوجة على الدفاع عن نفسها من الزوج إذ يحط محاذرًا علقًا في إبطيها، بين ثدييها، على بطنها، حيث يرتعش جلدها من لمسة العلقة، وبين الشعرات المجعدات في المفرق بين ساقيها. علقة منفردة، الأخيرة في الحاوية يضعها الزوج في حنية ركبة الزوجة اليمين، حيث اللحم طري وريان.

بضع عشرة علقة حركتها كلها شهوتها. تنخز جلد الزوجة وتحقن مميعًا بدمها.

في صمت موجوع تصيح الزوجة: لا! ساعدوني! ساعدوني رجاءً!

” يا حبيبة استيقظي! يراودك منام مستكره”.

أصابع تقبض على كتفي الزوجة في شدة، تهزها هزًا خشنًا. يرف جفناها فينفتحان.

في الظلمة التي ما هي بظلمة مطبقة مذهولة برؤيتها زولًا ينحني عليها، في جنبتها من السرير. يخبرها -كما قد يخبر الواحد طفلًا مفزوعًا- بأنها قد راودها منام مستكره لكنها الآن صاحية؛ آمنة.

أين هي؟ على سرير؟ لكن سرير من؟

عارية تحت قميص نوم. قميص نوم قطني رقيق؛ منقوعٍ بعرق بلغ حتى فخذيها.

مسعورة تتلمس بدنها: أنف، خدين، فك، ثديين، بطن. الجلد الناعم لا غير.

على هذا السرير في هذه الحجرة التي لا تميزها. ثم تستحضر: هي متزوجة (ثانية).

يتطاول أحدهما لمصباح جنب السرير ويشعله. كلٌ يبصر وجه الثاني مطوقًا بهالة على حين غفلة في العتمة.

أضف تعليق