كمين محير – آمبروز بيرس (قصة قصيرة)

(الكمين، أليكوس كونتپلس)

واصلةريديڤيل ووُدبَري كانت طريق رئيسية حسنة، صلدة طولها تسع أو عشر أميال. ريديڤيل كانت نقطة للجيش الفيدرالي في مِرفريزبِرو، ووُدبَري كان لها نفس الموقع عند الجيش الكُنفدرالي في تَلَهوما. شهورًا إثر المعركة الكبرى في ستون ريڤر هاتان النقطتان كانتا في معاركة غير منقطعة، غالب الواقعة يجري على الطبيعي في الطريق المذكورة، بين مفارز الخيالة. بعض الأحايين كان لسلاح المشاة والمدفعية ضلع في اللعبة في طريق إبداء ما عندهما من إحسان.

ذات ليلة سرية من خيل الفيدرالي عليها الرائد سيدل-ضابط حاذق هُمام- طلعت من ريديڤيل في إقدامة فيها مهلكة فوق العادة تستلزم كتمانًا، حيطة وصمتًا.

جائزة بأوتاد سلاح المشاة ما لبثت إلا قليلًا أن دانت المفرزة من الخيالة خفرين راكبين يمعنان في الظلمة قبالة. كان حريًا بهم أن يكونوا ثلاثًا.

“أين الرجل الآخر؟” قال الرائد. “أمرتُ دننق أن يكون هنا الليلة”.

“ركب قُدمًا يا سيدي” رد الرجل. “كان قليل إطلاق نار بعدئذٍ، لكنها كانت بعيدة عن الجبهة”.

“كانت خلاف الأوامر وخلاف الحصافة أن فعل دننق تلك” قال الضابط، مستاءً البين. “لم ركب قُدمًا؟”

“لا علم لي يا سيدي؛ لاح عليه تململ عظيم. ظني أنه كان فزعًا”.

لما قد انغمس هذا المفكر الأغر وصاحبه في قوة الحملة استأنفت تقدمها. كانت المحادثة محظورة، الأسلحة والعتاد حُرمت الحق في الخشخشة. كان جوب الخيل هو كل مسموع لا غير والحركة كانت على مهل لئلا يكون من ذاك إلا أقل القليل ما أمكن. كان بعد أوسط الليل وظلمة حالكة، ولو أنه كان طرف قمر في محل ما وراء كوم الغيوم.

ميلًا أو اثنين قدام قارب رأس الرتل غابة أرز أثيثة تحاوط الطريق عن جنبتيه. أمر الرائد بوقفة بشبه وقوف، الجلي أنه هو نفسه “فزع” قليلًا، ركب ماضيًا ليستطلع. غير أنه أُتبع بمساعده وثلاث جنود، من لزموا مبعدة من وراءه، خفيين عن بصره، أبصروا كل ذاك لما وقع.

إثر أن مضى راكبًا نحو مئة ياردة صوب الغابة كبح الرائد بغتة لجام خيله وقعد ساكنًا على السرج. قرب جنبة الطريق، في فسحة صغيرة مفتوحة وعلى مبعدة لا تكاد تبلغ عشر خطوات وقف زول رجل، لا يكاد يبان وساكنًا كما هو. وقع بادئًا في نفس الرائد رضى أن خلف وراءه خيالته؛ لو أن هذا كان عدوًا وحريٌ به الفرار فلسيكون قليلٌ عنده ليبلغ. والبعثة كانت غائرة لما تزل بعد.

كان جرم عاتم مُدرك في كلال عند قدمي الرجل؛ ما استطاع الرجل تبينه. بغريزة خيال عن حق وبنفور على التعيين من إطلاق الأسلحة النارية استل حُسامه. ما آتى الرجل على قدميه أي حركة جوابًا على التحدي. كان الحال حرجًا وفيه قليل هول. بغتة شق القمر طالعًا من صدع في السحاب و -هو نفسه في ظل لفيف من شجر البلوط الضخام- أبصر الخيال جندي المشاة بينًا، في رقعة من نور أبيض. كان الجندي دننق، من سلاحه مجردًا ورأسه حاسر. الجرم عند قدميه حسم أمره وكشف عن حصان ميت، وعند الزاوية اليمنى إزاء عنق البهيمة رقد رجل ميت، وجهه مرفوع قبالة في نور القمر.

“دننق قد كان في قتال لحياته” خطر للرائد، وأوشك أن يمضي راكبًا قدام. رفع دننق يده، دافعه إلى الخلف بإيماءة تحذير؛ ثم مخفضًا يده أشار إلى الموضع حيث فقدت الطريق صورتها في اسوداد غابة الأرز.

فهم الرائد، ومحولًا حصانه ركب راجعًا إلى الثلة التي قد لحقت به والتي قد كانت تتحرك إلى المؤخرة خشية غضبته، ومن ثم رد إلى رأس قوته.

“دننق هناك متقدمًا” قال لقائد سريته الطليعية. “قتل رجله وسيكون عنده ما يبلغه”.

في صبر ناجز ترقبوا، الحُسم مسلولة، لكن دننق ما أتى. في ساعة انشق الصبح وتقدمت القوة جمعاء في تحوط، القائم عليها غير راضٍ جملة عما وضع من ثقته في المجند دننق. قد حبطت البعثة، لكن ظل ما ليقضى.

في الفسحة الصغيرة المفتوحة براني الطريق عثروا على الحصان الميت. عند الزاوية اليمنى إزاء عنق البهيمة الوجه قبالة، رصاصة في الدماغ، رقد جثمان المجند دننق، متيبسًا كتمثال، ميتًا منذ ساعات.

فضح التحقيق والتمحيص فيض براهين حتى أنه في نصف ساعة قد شغلت غابة الأرز قوة ذات بأس من سلاح مشاة الكُنفدارلي؛ كمين.

مثوى وقتي للموتى – آمبروز بيرس (قصة قصيرة)

(حرب، مارك شاغال)

فوق عاليًا في قلب جبال ألجايني، في مقاطعة بوكَهانتس، وِست ڤِرجنيا وادٍ صغير حسن من خلاله تجري شُعبة نهر غرينبرير الشرقية. في بقعة حيث يقطع الشعب طريق ستانتن وپاركزبرغ القديمة الرئيسية -طريق عام شهير في أيامه- مكتب بريد في بيت مزرعة. واسم المكان مُستراح المسافر؛ لأنه كان فيما مضى خانًا. تتوج من التلال الخفيضة على مرمى حجر من المنزل صف طويل من الحصون الكُنفدرالية العتيقة، مبنية في مهارة و “مصانة” صونًا عزيزًا حتى أن عمل ساعة على يد كتيبة ليسجعلها في صورة نافعة للحرب الأهلية التلو. كان لهذا المكان معركته؛ ما سُمي معركة في “عهد غرارة ويفاعة” الثورة الكبرى. كتيبة من القوات الفيدرالية، كاتب الفوج فيها، حلت في جبل تشيت، خمس عشرة ميل صوب الغرب، وناسقة صفوفها في الوادي الصغير، أحست العدو سحابة النهار، والعدو أحس منها قليلًا بالمثل. كان رشق عظيم بالمدافع، الذي أهلك نحو اثني عشر نفس في كل جنب، ثم مستصعبة المكان للهجوم ومستعسرته سمت الفيدرالية الخطب استطلاع بالقوة، وإذ دفنت موتاها انسحبت إلى محل أهون من حيث قد جاءت. هؤلاء الموتى يرقدون الساعة في مقبرة وطنية حسنة في غَرفتن مقيدة أسماءهم كما ينبغي، ما دام أنهم عرفوا، ويصاحبهم موتى فيدراليون آخرون جُمعوا من غير مخيم وساحة وغى في وِست ڤِرجنيا. للجندي الصريع (كلمة “بطل” يظهر أنها استحداثة متأخرة) إكرام حاط ما أمكن منحه.

ضلعه في جماع الأبهة المطبقة

مدار تلال الصيف

أن قبره أخضر.

حق؛ فأزيد من نصف القبور الخضراء في مقبرة غرَفتن معلمة “مجهول”، ويحدث أحيانًا أن يخطر للواحد أن يفكر في التباين في “إكرام ذكر” من ما بقي من ذكراه ما يُكرم، غير أن المأتى يبدو ما ينال أحد من الأحياء بأذى بالغ، ولا حتى العقلاني منهم.

على مبعدة مئة ياردة معدودة من مؤخرة أعمال الكُنفدرالية العتيقة الترابية تلة حرجية. منذ سنين ما كانت حرجية. هنا بين الأشجار وفي النبات تحت الحِرج صفوف من الحفر الضحال، العثور عليها وارد بإزالة ورق الغابة المتكوم. من بعضها قد يؤخذ (ويستبدل في توقير) صفائح صغيرة رقيقة من حجر البلد المفلوق، عليه نقوش غِرة وكتومة خطها الرفاق. وقعتُ على واحدة عليها تاريخ ليس إلا، واحدة ليس إلا عليها اسم الرجل كاملًا والفوج. العدد الكامل الذي عُثر عليه كان ثمانية.

 في هاته القبور المنسية يرقد موتى الكُنفدرالية؛ ما بين ثمانين إلى مئة نفس، على نحو ما أمكن تبينه. بعضهم صُرع في “المعركة”، الأغلبية قضوا بالمرض. اثنان، اثنان وحسب، نُبشا لدفنهما ثانية في موطنيهما. منسيون وخاملو الذكر في هاته الجَبّانة أيما نسيان وخمول حتى أنه من فوقها مزرعته – مدير البريد المسن في مُستراح المسافر- يظهر من يعرف بشأنها ولا غير. الرجال القاطنون على مبعدة ميل ما سمعوا بها قط. مع ذاك فالرجال الآخرون الذين لا بد لما يزالون بقيد الحياة من عاونوا في دفن هؤلاء الجنود الجنوبيين حيث هم، في وسعهم تعرف من القبور بعض. أمن رجل -شمالي أو جنوبي- لعساه يستكثر كلفة منح هؤلاء الأخوة الصرعى تكرمة قبور خضراء؟ ليحسب الواحد ألا يظنها. حق؛ ثم غير مئة من قبيل هاته المطارح العثور عليها وراد في أعقاب الحرب الكبرى. كل الأقوى في البكم يطلبون؛ استجداء هؤلاء الإخوة الصرعى الصامت ما هو “الأحب عند الرب في النفس”.

كان من العدو رجال عدل وأولو بأس، ما هم ومعاتيه السياسة الذي حملوهم على حتفهم وشهودهم شهادات زائفة فصيحة فيما يستقبلون من زمانهم إلا على قليل. ما عاصروا زمن الخصومة الشريفة فزمن التشهير -ما تعاقب من العصر الحديدي فالبرونزي- من حقبة السيف إلى حقبة اللسان والقلم تلك. فيهم ما من واحد من جمعية التاريخ الجنوبي. بسالتهم ما كانت الحنق من غير المقاتل؛ ما كان لهم صوت في هدير المدنيين وفي الصياح. ليس بأيديهم اختلت عزة القضية الميؤوس منها ولا استمالتها النفوس الذي لا حد له. أعطوهم -هؤلاء الأفاضل- حقهم في جماع الأبهة المطبقة مدار تلال الصيف.

ڤينستِر– كِڤن باري (قصة قصيرة)

*ڤَسلي كَندسكي


كان الرجل الجسيم في طورٍ من الندم الأخاذ. مفطور الفؤاد كرة ثانية في الخامسة والخمسين ومستحبها. استند على السياج على سطح العَبّارة كورك – غوسكوف وهز في تفجع من جنب إلى جنب رأسه الأصهب الثقيل، الوسيم وصيحات جرو فقمة طلعت خفيضة من ولجات صدره. سِلڤيا قد هُجرت تلك الصبيحة في كَونتي كلير وستتجاوزه قبل أن يسقط الورق عن الشجر؛ كِيَن چون وِن لن يكف عن الأثرة. رفع رأسه ومسح الدموع وشاهد آيرلندا تنحسر في شبورة الظهيرة وصلى أن تلزم محلها. عرف أنه سيكون حينٌ طويلٌ قبل أن يرد إلى الوطن ثانية.

كان مطلع سبتمبر في حجبة شمس. النهار رائقًا والبحر الكِلتي جرى في انسياب على شعاع من الرمادي الضارب إلى البياض البارق. قطع السطح في غبطة حنين موجع؛ كانت العَبّارة كأنها قد أبحرت من فورها من الثمانينات. فكان نفس ضجيج ألعاب الفيديو الأحمق القديم نفسه المنبعث من تحت، وأغاني الدِكسيز مِدنايت رَنَرز(1) لما تزل تُشغل على مكبرات التَنوي(2)، وجماعة مراهقين فرنسيين وآيرلنديين صاخبة عليها بناطيل دِنم خصورها مرتفعة هيجت مغازلاتها في النسيم المالح المدوخة؛ لما يزل أمامهم خمس عشر ساعة لبلوغ ڤينستِر(3).

هبط الطوابق ليفر من الهرمونات. كان له ذؤابة الأرملة البَلجاء وهفو إلى ألبسة التويد العصرية. وقع على ركن هادئ في اللو كَفيّه وأخذ نبيذًا أحمرًا. كانت بوادره خاطفة وقلابة وطربة فراره تخافت الآن على جناح السرعة إلى فروغ. خواء مألوف انفرج جوانيًا. اشتكى لنفسه قليلًا وثم أزيد بعضًا والحق أنه احتج حينًا في شبه جدية على وجوده. ثم لملم ما بين يديه من سلوى قليلًا. شرب على مهل وفي حكمة. جرب أن يقرأ روايته إلا أن الكلمات ما كانت لتثبت في الصفحات. ما لبثت أن قعدت فتاة نحيلة في نحو الرابعة عشر الخامسة عشر من عمرها إلى الطاولة الأدنى منه. قلبت فاتحة ظهر جهاز مَكبوك وعبست فيه هنيهات معدودات ومن ثم نظرت على غير هدى صوبه.

“الواي فاي غير معقول” قالت.

“آه، صح” قال.

“يعني حتى نتفلكس المنيك لن يبث؟”

تبسم في أسف الفاهم ورجع إلى ما بين يديه لريتشل كَسك إلا أن الكلمات عامت وطفت وصار مضطربًا وأي اضطراب إذ الفتاة نقرت على المفاتيح وتمتمت في وحشة وفي عجل ما أعجله.

“أولاد الحرام النصابين” قالت. “ما قصة أنهم يدفعونك زيادة لشبكة ليس لك المشاهدة عليها؛ نحو خمسة عشرة يورو منيكة؟”

قليلًا؛ خطر له. كأنها ضرب من طيف. جهد ألا يخوض لكنه ما استطاع ردع نفسه.

“ما الذي تحاولين مشاهدته؟”

“أشق سجون العالم” قالت. “الموسم السابع قد نزل”.

عرف أن عليه ألا يسترسل في المحادثة. رجل يسافر وحيدًا في خمسيناته السقيمة لا يحادث فتاة في سني مراهقتها دون أهلها أو وصي يُرى، لا سيما ليس في حالة الرومنسية السودواية هاته وليس لا محالة وقنينة من الشاتو ديسبير جارية.

“ما رأيكِ بالموسم السادس؟” قال. “حلقة البوسنة والهرسك مثلًا؟”

“يا رجل” قالت. “القطط السلافية المنايك هاته رجعت إلى القرون الوسطى إيه؟”

تبسمت أول مرة وكانت بسمة افترار جميلة وبسمة مستبسلة.

*

قد كان شاعرًا بسِلڤيا حضورًا منزويًا حوالي تخوم الافتتاحات والليالي الأولى. عرف أن لها ضلعًا كان في التصميم، في الشعر الملقى ساعته، وفي مخطط لإعادة توطين الذئاب في محافظة كونَكت. كانت شاحبة وطويلة وحسنة الطلعة عن حق، رفيعة في أناقتها، وعسيرة مغازلتها عسر موحشًا. قد أصاب عبسة امتهان غير مرة من ناحيتها وكان كمثل كلب في أثر عصا. صادفها في ساعة الغداء على أريكة في غولواي أواخر أبريل والقدر المضبوط من الشراب في بطنه وأضحكها على نحو ما. عرف عندئذٍ كيف يخرج على عجل وتطلع حواليه وانسل في سخرية وضحكت ثانية. وجد ذاك أخاذًا أيما أخذة. اتخذت العلاقة صورتها على الكمال في مايو وكانت طربة غبطة في كل نحو مألوف وصورة مطلع يونيو. غالبها كان في صورة رومنسية قبالة البحيرة بالرجعة إلى محلها شمالي كلير واليعاسيب وضياء الشمس من خلل القصب وما إلى ذلك. جرارات صغيرة تتهادى على غير هدى في الأفق؛ باهر. في هاته الأسابيع الأولى تحادثا في إفراط، وكل حين -كانت نوبات ونوبات من الكلام- ووقعا على بهجة وسلوى فيما تقاسما من آراء، تواطؤًا وعناية فيما اختلفا فيه؛ تحادثا دائبين ساعة الفطور، سحابة النهار، فيما يطبخان، إذ مشيا، ليلًا إثر أن مارسا الحب. الساعة وليس طول ما مضى من حين عقبها ما وسعه استذكار أي مما قد تحادثا فيه؛ ما استطاع أن يذكر ولا كلمة واحدة منيكة منه.

*

في البحر المفتوح اشتعلت الشمس من خلل حجاب رقيق من الغيم والضياء على الماء أحدث تلألأً احتفاليًا. في ركن اللو كَفيّه أدار كرسيه عن مرأى البحر وعن الضياء.

“يصيرون مزدرين مترفعين كنائكي أمهاتهم في أمره” قالت الفتاة.

“هؤلاء أبواكِ؟”

“إيه” قالت. “يعني إنما لا نريدك تشاهدين خراء السجن لا أكثر؟”

“عليكِ أن تشاهدي ما شئتِ متى شئتِ” قال.

“شكرًا” قالت.

“ولا تثقِ قط بالذوق الرفيع”.

“لم؟”

” هو رأي القطيع” قال. “الذوق الرفيع لا يكون رفيعًا إلا إن وافق عليه كثيرٌ من الناس”.

“أنا معك يا رجل”.

“على أي حال” قال “الحبس حقل مقبولة دراسته قبولًا تامًا. يعني انظري على أي شاكلة العالم ماضٍ؟”

“تمامًا” قالت “يعني كلنا سنصير أولًا على آخر عبيدًا لأحد عاجلًا غير آجل؟”

“ما عندي في هاته أي شك البتة” قال. “علينا أن نتهيأ لما هو آتٍ”.

*

كلما زاد اطمئنان سِلڤيا لحضوره في بيتها قل نومه، وأخذ الصيف يشيخ في غير استحباب. ساعات العتمة كانت قصار، والليالي ما لها نهاية. تقاذف بدنه في الفراش وتقلب كسمكة تاروت ضخمة سمينة كانت تُحتضر وكان الظاهر عازمًا على إفناء فكيه. اجتمع سحابة الليل بقوات ميتته الجلل المغمين. رقد هناك يزعق متوترًا وما تلقى أي إصلاح لزنزانته فيما سِلڤيا جنبه نائمة غافية دون جهد في كفن ليالي الصيف من القنب. أصغى إلى رقادها الساكن تمامًا، كأنه كان من غير نفس، وراقب ملمحها جنبًا إذ استلقت، اليدان مضمومتان على البطن كأنها مجهزة للدفن؛ كأنها من قبيل شهيد مقدس، وأخذ هذا المأتى كأنه إهانة شخصية. راقب النور الرمادي الجديد يزحف حذاء حرف النافذة الكبيرة من تحت العتمة. كانت نبضات غريبات كالديدان في قعر حنجرته. كانت كلمات غابرات على شفتيه إذ رقد يتمتم في وجه ما بقي من الليلة. غالبًا ما نفض يديه حتى من محاولة النوم وهدج هابطًا الدرج الناتئ كرجل نجى من حرب وخلص. راقب في وجل ما له اسم إذ دنى الفجر الذي لا يرحم خلسة عبر الحقول التي أسوارها من حجارة. أسدل الستائر في وجه الصباح الجديد وتارة ثانية حمل اللابتوب.

آن العلاقة الغرامية قد أتم مشاهدة خمس مواسم من “يلوستون” من غير ندم، والحق أنه لما حل سبتمبر ما كان غافلًا أن عن موسمًا جديدًا من “أشد سجون العالم” كان سينزل.

*

ارتدت الفتاة ملابس فضفاضة، ما فيها تعيين على الطراز النادم، العصري وبألوان النيون الصارخة التي بُعثت مؤخرًا من مرقدها من سنة 1983. ضياء الشمس من خلل نوافذ المقهى تحرك في مرح وتقافز. حجبت عينيها عن الضياء وحدقت في تشديد.

“حواليك ما يشبه طاقة غريبة” قالت.

“هاته ليست ملاحظة أولى” قال.

“لا أتخيلها” قالت. “وربما فيك مسحة ترهيب للحق؟”

“أحقًا؟” قال. “أتظنينها؟”

“ربما من حاجبيك” قالت.

“الآن تنقلب شخصية” قال.

“هما على صورة شاذة” قالت.

التفت إلى النافذة وتفقد انعكاسه قبالة وهج الشمس.

“قطعة صغير مني ثانية قد ماتت” قال.

“خذ لك شرابًا ثانٍ” قالت. “كنتُ تعد الحسوات في ذاك”.

“طيب” قال. “يلزمك مراقبة. أين أبويك؟”

“أبواي” قالت راسمة بيديها علامتي الاقتباس. “يعني عليّ أن أنبش هذه المفردة من قبرها “.

*

على إثر ممارسة الحب كِيَن چون وِن كان في حال يرثى لها ناشجًا، شاكرًا وعادة استلزمت تسليته دقائقًا. عقب شهرين مع سِلڤيا قد أخذ هذا ينفث ضرره. رمته بالاصطناع، وأردى. في الفراش راحت الساعة تعرض عنه وتقذف بالاتهامات صادة. أنكر في صوت أجش أنه قد كان يومًا صعلوكًا. في سبت نهاية أسبوع عطلة المصارف في أغسطس عضت ذقنه على نحو جاوز المداعبة اللعوبة. طلع من البيت وعيناه كعيني غزال صغير جريح وأشعل سيارته التِسلا ونذر ألا يرجع ثانية أبدًا. رجع الساعة الخامسة والعشرين الصبيحة التلو يعج نحو صندوق بريدها. لا محالة إذ الفصول تقلبت كانت العلاقة في الميل القديم الذي لا مفر منه؛ جرب أن يرفض سطوتها. الساعة على سبيل التغيير رقد ساهدًا بين الأجمات برانيًا. خلته يرجع إلى البيت ساعة الفطور وعرض عليها الزواج إذ الشكشوكة على الطاولة. قبلت سِلڤيا مترقرقة العيون من فورها. كان فيها اثنان منهما. شابكا أيدي بعضهم البعض ووقفا يرتعشان سوية في توسعة المطبخ التي على الطراز الخمومي. إذ تقدم أغسطس اتخذ الجوار حرارة دغل مستنقعي كانت منحوسة إذ اندفعت في الحقول وكان يشاكلها ما يشبه دخان المقبرة والبقية الباقية من نومه تبددت في الجهات الأربع وتناثرت. الساعة أخذ من الحبوب كميات للأرق وصار نزقًا شكسًا كقط مسن منها. أما سِلڤيا آنئذٍ فكانت نشوى وفرحانة بدوي الخطبة الحادثة وضحكت وأكثر في الأماسي لما رجعت من مشروعها في التصميم أو أمر الذئاب أو من أي نيك كانت تفعله. بدا الضحك كأنه من غير مأتاها وعنها شاذ. أو كان أقله في النحو الذي عليه ضحكت شيء. تقذف رأسها إلى الوراء كلما فعلت دأبًا وكل مرة فعلتها خطر له: مدعية مستعرضة. كانت تقذف رأسها المنيك ثانية كمستعرضة منيكة. وكانت الشاكلة التي عليها أصرت على مقاسمة أيما هراء أضحكها في جوالها. كانت لتدنو يكممها الضحك يكاد يسقطها، ولتقول: “عليك أن … عليك أن … هذا … هذا سينهيك يا كِيَن …”

“الراجح أنه ليس حقيقيًا يا سِلڤيا”.

“لا، عن جد … عليك أن …”

وكان ليتهلل في انصياع من قطة منيكة راقصة أو حلقة تهريجية محلية في أثلون أو بقعة رهيبة ما ويخطر لك إيه، طيب ربما لن نحضر عيد الميلاد في هاته.

*

اندفعت العَبّارة نحو الموج وقد شقوا طريقهم لا محالة في القارة. كثف الضياء إذ هبط المساء. اتخذ البحر سواد الحبر. كانت السماء فسيحة وشاعرية وعجيبة.

“طيف؟” قالت الفتاة. “أنا في كل الأطياف المنيكة”.

“أعرف هذه” قال.

“أعني ما قد وضعوا لها اسمًا على التعيين إلا أنهم اتفقوا عامة أن عندي نزوع لـ” -رسمت علامتي الاقتباس ثانية – “طمس العقد الاجتماعي”.

“حلو” قال.

“كانت غير إحالة” قالت. “لكنك تعرف كيف هؤلاء الناس”.

“هؤلاء الناس؟”

“أوه، تعرف” قالت. “المعالجون. إلخ”.

“لا أعرف للحق” قال. “ما قد عدت قط”.

خلت فكه يتدلى في إيماء انهيار عجب وانذهال.

“أنت؟” قالت. “ما قد عدت قط؟ العلاج النفسي؟”

“لا أرى جدوى فيه” قال.

“لم لا؟”

“لأنه لن تكون الجدوى إلا إن كنتُ مستغرقًا بكليتي وحاضرًا حضورًا كاملًا في العملية وصادقًا. سيتعين عليّ تخبير أحدهم بما كان يجري في ذهني سحابة وقتي. ولا أطيق فعل هاته”.

“لم لا؟”

“لأنهم كانوا ليودعونني منشأة مغلقة ولسيقذفون المفتاح”.

“أرجوكم لا تأخذوا أبي!” صاحت.

“طيب” قال.

“على أي حال، تلك ليست سبيل العلاج النفسي” قالت. “أي تخبريهم بكل ما في رأسك؟ آنت حمار مجنون؟”

 *

ما كان ليتوقع تكلف صباح الانفصال الأخير عن سِلڤيا التمثيلي. حسب أن الوضع سيستوفي نفسه وكفى؛ قد استوفى غير واحد قبلًا. لكن كان تذمر طفيف من استمرارية وجبات الشوفان طوال الليل زادت حدته على حين غرة وكان كلاهما واقفًا قبالة الآخر يصدحان. رمته بأشين الرميات: بأنه مستهلك وصفيق وغير مراعٍ في مرحه وملفق تصور انتحاري لينال الوقعة والحظوة. أما هو فقال بأنه يعتقد أن شخصيتها مصاصة دماء في صميمها وأنه لن يطيق أن يكون قوتها. إذ ذاك طلعت فوق جزيرة المطبخ وحاصرته بين الخزفيات والمقالي وخبرها بأن ما قضياه معًا من حين قد كان عطية بديعة وضربته على أذنه بمبشرة.

” سِلڤيا عن حق” قال.

أما الخاتمة فكانت استدعاء الشرطة وروايات منمقة للواقعة أداها الطرفان -يسعك أن تضعها على المسرح المنيك- ولا محالة انقلبت الشرطة عليه وأصدرت الأوامر الحازمة المعتادة.

“انقلبت عليّ ردى ثانية” خبر الفتاة.

“تفاصيل أكثر” قالت.

“لا” قال. “لنكتفي بالقول إني الآن آخذ مأخذ الجد ألا أطأ أرض بلدة إنستَيمون تارة ثانية”.

*

كان ألق في عيني الفتاة ألقًا مذهلًا. اشتعلتا بهذه الصراحة الغريبة وببراعة ماكرة. كان فيهما بالمثل شيء عتيق، شيءٌ إلفي، كما يكون في وقعة في عتمة الغابة. أريبة مشافهة؛ صانت ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا وفي محاذرة سيماءها؛ خطوط التوتر البينات التي طلعت في رقبتها فضحت تلك السيماء. اعتمل في نفسها أن الأمور قد تجري في صالحها وضدها على حد سواء. رفعت الآن بصرها وفيه التماعة قلق.

“طيب” قالت. “الماما تدنو”.

التقط روايته كما لو أنه ليقرأ ومثّل عبسة انكباب قبالة رواية كَسك ورشف من النبيذ رشفة.

امرأة ذات طلعة عملية عليها جاكيت صوف خراف عملي طلعت. حادثت الفتاة في صوت خفيض وفي حاجة مسيسة، من ردت بصفقات من يدها وغير سعلة تطمين طفيفة. إذ المرأة غادرت بدت كأنها ترميه بنظرة، كأنها توشك أن تقف، إلا أنها مضت ثانية. ما لبثت أن غابت عن النظر _

“لنلعب لعبة الأسرار” قالت الفتاة.

“أوه، فلا نفعل عن حق” قال.

“ما قد مارست الجنس قط” قالت.

“أرجو أنكِ ما فعلت” قال. “أنتِ طفلة”.

“أنا في نحو السادسة عشر”.

“أخريها ما استطعتِ إلى ذلك سبيلًا” قال. “ليس ذي شأنٍ لتتشوقي له في نهاية المطاف”.

“طيب” قالت.

“وفيه نزوع لإرباك الأحوال”.

“إرباك كيف؟”

“فيه وهج خداع يطلع منه” قال.

“وهج؟”

“نعم” قال. “وهذا قد يكون رأيًا منكرًا ورافضًا إلا أنه ما أراه: وهج الحب الرومنسية لا يدوم إلا نحو ثلاثين … لقاء”.

“أتعني نيكة؟” قالت الفتاة.

“نعم” قال. “عندك لسان قبيح في رأسك”.

“شكرًا” قالت. “لكن كيف تعرف أنها ثلاثون؟”

“عددتها” قال.

“وماذا يحدث بعد الوهج؟”

“بعد الوهج” قال “لا يكون الحال سوى حاجياتك في صناديق وحاجيتي في صناديق وهراء”.

“صناديق الحاجيات!” قالت. “عند “أبوايّ” من هاته”.

“أنتِ لا تُكبحين” قال. “لكن أتعرفين بالمناسبة ما البذاءة؟”

“في نفسي أنك ستخبرني بابا”.

“البذاءة هي استعمال اللغة وقائيًا” قال. “هي درع. إذ ما الذي تقين نفسك منه وعنها تدفعينه؟”

“ما عندك؟” قالت.

*

ما قد كان عنده هو إفراط في الحب في قلبه وإفراط في الحب بالغ حتى ليُبلغه. كان وسعه في هاته وسعًا مُثقل لا يُطاق؛ خبر الفتاة. شططُ في الشعور كان اللعنة الأفظع. قد باع نفسه للعاطفة يافعًا وما وقع على متلقٍ قط. كان في الأصل في طورٍ من المراهقة الأبدية. كان عُرضة للنظرة المحتدمة من طرف الحجرة -لما يزل حتى- ولنفوذ الموسيقا الرخيصة. كانت الدنيا بهاته المغريات طافحة إن عرفتِ أين تفتشين عنها. كان مسنًا على هاته الآن وكبيرًا على كل ما فيها وطيها؛ قال ورجاءً لا تعارضي هاته الحقيقة. تساءل إن ما كان على غير نحو جوهري أفدح في تخريب معاشه وتدميره. ما كان رجلًا جادًا؛ قال. وأي نعم أحيانًا ضاقت به وأظلمت أيما ظلمة، بواكير الصباح، وأحيانًا للحق ما استطاع أن يرى منها سبيل نفاد غير واحد.

“الانتحار!” صدحت البنت.

“ليس أنها ما وردت خاطري قط” قال. “لكن لا أعرف … فيها من الاستعراض واللفت ما سأجده آخرًا صارخًا”.

“عارفة عما تتحدث” وافقت الفتاة.

“وعلى الجملة” قال “ينبغي علينا أن نشيح بوجوهنا عن الموت”.

“نعم يا أبي” قالت.

“ستعرفين أنه مما سيتقصى أثر نفسه”.

“فهمت” قالت. “إذن تشيح ليس إلا؟”

“حتى آخر لحظة ممكنة” قال.

“طيب” قالت. “لكن أنى لك أن تعرف أنها آخر لحظة ممكنة؟ أو أنها ليست؟ يعني يمكن أن تكون حتى هنا، الآن، على هذا القارب المنيك”.

مال قبالة قليلًا وأخفض جبينه المنمش الكريم.

“أتحسبين أنكِ تنظرين إلى الأحمق العظيم من استنبط كل هاته وأدركها؟”

*

حتى ويداه ما زالتا ترتعشان في التِسلا تلك الصبيحة، حتى وسِلڤيا ما تزال تحتدم غيظًا بين الأجمات وجَنّابِيَّة الزهر البري، حتى والشرطة ما تزال واقفة قبالة الطريق وسيارة الفرقة مترعة بوجوههم العريضة كزبد ما فيه ملح، حتى ما كل ما وقع قد عزم أن يدفع الزيادة الطفيفة لينال مقصورة تطل على البحر. حجزها من جواله والحق أن تسعيرة آخر دقيقة كانت لا بأس بها.

شقت العَبّارة عباب دُجة الليل المظلمة الآن ورقد ساهدًا وآهات البحر الرقيقة ونشره. أشعل مصباحًا والتقط من المنشورات وقرأ أن العَبّارة تسع في بطنها نحو ألف وأربعمئة نفس يرقدون نيامًا في مقصوراتهم اللاتي كصفائح السردين حواليه ومن فوقه ومن تحته، أحلامهم يتردد صداها في نظام التهوية خفيض الأزيز. يطفأ النور ثانية ويستلقي وعيناه مفتوحتان. عرف أنه ما كان خيرٌ آتٍ، وكان هذا انشراح نفس بالغ. لا تُرى من البحر قبالة -على مبعدة أميال إنما أقرب- ذرى مرتفعات ڤينستِر البيضاء والخضراء.

*

 قبل أن يفترقا في اللو كَفيّه كانت مصارحة غريبة أخيرة بينهما. خبرته أن الادوية الأخيرة عبثت برغبتها الجنسانية وأنها الآن لو كانت منجذبة لأي شيء فكان جذبتها اللحف. خبرها أنه ذات مرة لما كان في نحو سنها طاش صوابه طيشة كبرى حتى أن أباه وأمها اُضطرا لربطه بالسرير في البيت في روسكي، كَونتي روسكَمن، وفيها كل عذر ومسوغ.

“وانظري إلى حالي الآن” قال.

*

رآها مرة زيادة صبيحة. مرت حذاءه وراء والديها إذ تعاقب الركاب نازلين إلى طوابق السيارات. كان لأبويها كليهما مأتى عجلة من طال به أمد المكابدة وارتدى كلاهما جاكيتات من صوف الخراف كأنها مواءمة في وجه مكابدتهما. التفتت الفتاة نحوه إذ هي جائزة وزررت عينيها لتداني أنفها وهزت ذراعيها ثوانٍ في ارتعاشة غضب كما لو أنها صعقت بالكهرباء في مصح. هز كتفيه لها، ما عسانا نفعل؟ ردت بتلويحة عندئذٍ وبسمة دانت الخجل ودانت العذوبة.

دانى بقلب متماوج التِسلا. حمل كتفيه العريضين صلبين وفي فخر. كانت فرقعة همة غير مشروعة تطلع من الرجل الجسيم. كان فيما حواليه ما هو حركي، ما هو متقلقل. تحركت شفتاه في صوت خفيض بخلجات قديمات إذ العَبّارة رست وقعد هو متحينًا خلف المقود. تلا أسماء كل هؤلاء الذين قد أحب؛ كان هذا رسم مألوفًا وثابتًا وكان فيه مجيدًا. هبطت عندئذٍ سلالم السفينة بقعقعة عظيمة وراحت السيارات تكر.

لاحت فرنسا بادئًا كأنها في بياض معمٍ آتٍ من شمس صباح سبتمبر وأحس في نفسه تارة ثانية في حياته أنه قد خُلص وأُنقذ. ساق في صبر وعلى مهل شاقًا ساحات الميناء حتى أخذ زحام العَبّارة ينفض، وانفرجت الطرقات كلها، والصباح كمثلها.

سيسرع الآن في سياقته سحابة النهار جنوبًا حتى العتمة وفي منتهاها ستكون محاريات ونبيذ أبيض بارد وخفوت حجرة باردة مفردة المستحب، وربما شيءٌ فيه شبه من النوم.

(1): (Dexys Midnight Runners): فرقة بوب بريطانية من بِرِمنِغم تعرف اليوم بدكسيز.

(2): (Tannoy): شركة تصنيع مكبرات صوت بريطانية أُسست سنة 1926.

(3): (Finistère): إقليم فرنسي في غربيها.

توردات – غرايمهْم سويفت (قصة قصيرة)

(كيكة يوم المولد، لي فو)

سرح الدكتور كول سيارته من مرأبها، ثم توقف، على غير العادة، ليشاهد في مرآته الخلفية باب المرأب ينزلق رويدًا نازلًا والضوء فوقه يطفأ نفسه. هذه قد منحته فيما مضى رضى سخيفًا، واهيًا؛ اليوم ما كانت إلا توديعته. السيارة كانت غالية ومريحة، كما كان البيت الذي اتفق معها: فسيح، ركين، مجزر بالمرجات والخضرة، كمثل سواه في الناحية الهلالية البسيطة.

إذ انطلق بسيارته ما كان من صوت سوى قرقرة المحرك وطقطقة الحصباء، خلا -ولو أنه جواني سيارته ما استطاع سماعه- نشيد الطيور العظيم. كانت الساعة بعد السادسة صباحًا بقليل في صباح من أبريل، لكن إذ بلغت الساعة الثامنة كان لما انفك السكون العجاب. عدا الطيور. قد صارت صاخبة فوق العادة؛ كما لو أنها جاهدة عمدًا في إتيانها. إلا أن ذاك كان وهمًا. كان ذاك خلاف الصمت. منذ أقل من ساعة قد كان راقدًا في السرير، يصغي إليه ويعجب. رجلٌ وحيد في دار كبيرة، محاطًا بالطيور، مرنمته.

والطرقات -حتى الرئيسية منها- ستكون مقفرة. ستكون مقفرة قفرها في الثامنة. العبارة “بلدة أشباح” وردت بعض الأحايين للدكتور كول إذ قطع رحلته. دنيا أشباح. لسيبلغ المشفى في خمس عشر دقيقة. على العادة – متى قد انقطعت “على العادة” عن كونها الحال؟ – قد تأخذ خمس وأربعين.

إذ انعطف طالعًا من الدرب انسل ثعلب غير عابئ من خلال شعاع مصابيحه الأمامية. ذات صباح قد أحصى ست ثعالب. الطيور والثعالب. قد استعادتا العالم.

هاته الرحلة كانت وقته لا لإحصاء الثعالب وحسب بل للتفكير. أو -بالأحرى- مسلكه لذكرياته، اللاتي جاءت وافرة وعجلة، غير مطلوبة. أشباح. قد أثبت ما قيل: أن -إذ نحن مسنون- استحضارات ذاكرتنا الأول هي ما ترد إلينا الألح، فيما الوقوعات المتأخرات ترتد.

الوقوعات المتأخرت يمكن إيجازها في تعقل: زواجان، طلاق واحد، لا ولد في أيهما، وثانيهما أطول كثيرًا وذي وجه أزيد من الأول. زوجته الثانية قد كانت حب حياته؛ له قول تلك من دون تردد ولا ترو. لكنها قد كانت ميتة اليوم منذ جوز سنتين. فقدة حياته. قد ماتت عقب سنة من تقاعده ليس إلا. حتى حين قد رقدا سوية في السرير الذي فيه قد كان يرقد منفردًا، مصغيًا، إذ انفجر الصبح، إلى الطيور. قد قالت له مرة رويدًا: “يسعنا أن نفعل هاته الآن”. كما لو أن الرقود هناك سوية أبسط إنما أعظم منحة للتقاعد كان أن أتى بها. كانت.

مع خلو الطرقات أو بسببه قد أخذ يطلع أبكر مما احتاج، فيكون له عن قصد التلكؤ، بل حتى سلوك التحويلات، ليطلق دفقة الذكرى فتجري في مجراها. كانت ذكرى، لا خاطرة. ذهنه امتلأ وخفق؛ وظيفة توجيه. ابتهج ابتهاجًا مبهمًا في الطرقات الوادعات التي خلتها تحدث. تلك الكلمة -بالمثل – خطرت له. “وادعة”. في هنيهة لسيدخل في مشهد حرب.

قد قدم. أنى له ألا يفعل؟ كان في الثانية والسبعين ومتقاعدًا، لكن أنى له ألا يفعل؟ كان أخصائيًا في الأمراض التنفسية. قد تقاعد بُعيد أن قد ماتت أمه. كانت في الثانية والتسعين. منذ عقود انسلخت، عقب طلاق أبويه، كانت أمه هي من قد أرادته طبيبًا. كانت أمه من قد ادعته لنفسها حصرًا، وما قد عصى. ما قد صار طبيبًا وكفى بل-على ما تبين- علا نجمه في ميدانه. ومن ثم فقد أنجز حلم أمه، وزيادة.

عالٍ نجمه في الطب لكنه ما قد استطاع تنجيتها. أو زوجته. في سنتين كانتا كلتيهما قضيتا. امرأتا حياته.

قد قدم. ما كاد يكون خيارًا. قد قدم كمثل جندي احتياط مُستدعى. قد كانوا “أُكرموا” برجعته. لكن ما معنى ذاك كان أوسط غائلة من قبيلها؟ رتل مصابين. رتل موتى. واحدة فيها -عرفها بينًا- قد تكون نصيبه. كلهم عرفها. قد تكون من نصيب أي واحدٍ فيهم.

أما الذي ما عرفوه -إذ هو جاهد ليكون مثلًا للسلطة الرزينة- أنه الحق استحب وجوده هناك. فوجوده “ألهى الذهن” على ما يقال. شغله وأشغله.

إلا أنه الساعة ألهى الذهن على نحو غير. ما وقعت في المضيات إلى البيت. أدى “ورديته” التي قد يطول حينها، وما لأمدها تعيين. وقع على ما يؤكل. ساق إلى البيت، باطل الحس. الحمد للرب أن وسعه النوم. ما كانت إلا هنا، في ركوبات السَحر هاته، أن راجعه معاشه، من أفواته العجب. وإلا فقد رحل؛ قد لاح كأنه انقضى. والساعة فهم -قَبِل- أنه عما قريب قد ينقضي عن حق.

إذ أمسك المقود كان طفلًا ثانية. لو أن الأمر كان إحصاءً لقال على التعيين أنه كان ابن عشر. غير أنه ما تعين عليه إحصاء. كان ابن عشر.

كان ابن عشر، ولازمًا السرير كان في صبيحة مشمسة من شهر يونيو لأنه عليلًا. أبصر وجه أمه إذ هي مالت صوبه. كانت قاعدة على حرف السرير، تمسد بين الفينة والثانية قدمه المغطاة أو ركبته، وعلى أنه كان عليلًا ما لاح على محياها اعتمال انزعاج ولا أقل القليل منه. ظهر بالحبور مطبقًا بل حتى جذلٍ وأي جذل.

كانت لتكون -ماذا؟- امرأة في مطلع ثلاثيناتها ووجه الدكتور هِندرسن -الدكتور هِندرسن!- ولو أنه كان وجه طبيب ومن ثم كالحًا إلى حين، بدا بالمثل جذلًا وأي جذل. وقع هذا على الدوام لما عاد. الأطباء “عادوا” في هاته الأيام. كان ليلوح بالمدخل، ممسكًا حقيبة الطبيب التي له، زولٌ متجهم، غالب الأحايين إن ما كان يزال عليه معطفه الشتوي الأسود وآتٍ معها بأثارة من هواء بارد. إلا أنه وعلى جناح السرعة لسيرق ويصير أنيسًا، بل ومرحًا. وكم لكان عمره؟ في أواخر ثلاثيناته. “طبيب شاب”.

اليوم سيكون ميتًا لا محالة.

لكن في هذه الصبيحة ارتدى الدكتورهِندرسن بدلة صيفية خفيفة رمادية فاتحة. قعد جنب السرير على الكرسي الذي كان دأبًا يؤتى به له. ما كان من أثاث الحجرة. كانت أمه لتأتي به. الكرسي للدكتور هِندرسن! له أن يراه الآن. كان له تنجيد مخطط، أحمر على أصفر كريمي، وعرف لاحقًا أن تلك التخطيطات اسمها تخطيطات ريجنسي. كان محله في حجرة أبويه، حيث كأنه ما استعمل للقعود، لما متى نظر إليه كان على الدوام أو نحوه مسدلًا عليه من ملابس أبويه. إذن الساعة قعد الدكتور هِندرسن حيث قد اختلطت ملابس أبويه.

لكنه حتى قبل أن قعد، قبل أن قطع الحجرة، قال: “إذن يا چيمي أنت رجلٌ مسعود. كان لك أن تكون متوعكًا في ميلادك العاشر. ينعاد عليك بالفرح، إن أنا ما تأخرتُ كثيرًا. تحدثني أمك أنك أحرزت حفل ميلاد بديع. لنلقي عليك نظرة”.

قعد الطبيب على الكرسي. أمه قعدت على السرير. كانت هاته دأبًا جرايتها. ما كانت واردة فيها صورة ثانية. مسدت أمه قدمه أو ركبته وأحيانًا مالت صوبه. والدكتور هِندرسن أب عليه على منحاه في صنعته.

كل مرة راقدًا هناك قد اعتملت في ذهنه الخاطرة لكنه استبقاها في نفسه: أنهم كانوا كمثل أُسيرة. كانوا كمثل الجماعة الصغيرة التي سكنت على العادة هذا البيت. وفرضًا لو أن أبوه -من كان الساعة مشغولًا بعمل- بُدل بغتة بالدكتور هِندرسن. ألتكون شديدة؟ كان للدكتورهِندرسن مأخذ-ولو أنه وهو في العاشرة ما عرف بعد المرادف لها- في أن يكون أبويًا. أكان الدكتور هِندرسن حتى أبويًا أكثر من أبيه؟

كان وجه أمه مشرقًا باهرًا ومسرورًا، وكأنه في هاته الصبيحة رفف حواليهم جميع ضرب من غبطة مخصوصة.

عرف ما كانت. أحسها هو نفسه، مع أنه كان متوعكًا. بدا كما لو أنه الساعة قد استتم قائمة العلات التي -ولو أنها كانت علات- كانت مرغوبة مطلوبة أن تناله. كانت كمثل تكليف، تكليف قد استغرق -في حاله- عشر سنين. حياته كاملة! كل علة كانت ممتحنة، واحدة أو اثنتين كانت كريهة، لكنها في الحين نفسه مبعث فخر ومسرة غريب. الساعة قد قضاها كلها. كان محل تهنئة، وليس على يوم مولده الأخير وحسب.

وإذ رقد هناك، عليلًا، محط عناية أمه والدكتور هِندرسن التفاتهما اعتملت في نفسه جيشة سعادة. حتى الكلمة “سعيد” كانت كأنها تحوم فوقه، كمثل تشخيص الدكتور هِندرسن الذي ما أُعطي بعد، كمثل شيءٍ قد يحوم فوقه سحابة معاشه.

“طيب يا چيمي ، سأقول، بالنظر إليك، أمك أصابت. ستصير إلى تأدية عملي بعد حين. على أنه إذ العلات تكر ليست هاته في الأعسر تعيينها”.

سدد الدكتور هِندرسن صوب أمه نظرة على قد كانت لتسمى لعوب. كانت نظرة حلوة. غالبًا ما استعملت أمه الكلمة “لعوب” (عادةً في أمر ابنها): “لا تكن لعوبًا”. والساعة كانت لتكون سديدة على التعيين.

قال الدكتور هِندرسن: “حمى قرمزية. لأقول بهاته، بالمثل”.

ثم قالت أمه، في تبسم فيه مكر: “ما لم يكن في استحياء ورّد وجنتيه ليس إلا”.

ما كان للدكتور هِندرسن أن يعرف أي معنى مخصوص قد حملت هاته. لو أن أمه قد كانت ميالة للغمز لقد غمزت آنئذٍ.

أطلق الدكتور هِندرسن شبه شخرة، شبه ضحكة. “إذن ماذا عندك لتسحيي منه يا أيها الشاب؟ افغر فمك”.

وأي حذق منه. أن سأل سؤال من قبيله، ثم استبعد أسباب إجابته. طاف السؤال في الهواء إذ فحص الدكتور هِندرسن لسانه ولوزتيه.

“حمى قرمزية، لا ريب فيها. لنلقي نظرة على طفحك”.

إذ ساق الساعة بين صفوف من المنازل الشبيهة بالأضرحة تذكر كنزة منامته الصغيرة، مخططة كالكرسي، إنما بألوان أفتح. وتذكر طفحه، الإخافة التي أورده، وكيف أنه إثر زواله وبعد حين طويل وأنه صح كان جلده ما زال غريبًا وخشنًا. وذكر قائمة كاملة -التي فيها هذا في حاله كانت الأخيرة- علات الطفولة، وأسمائها التي كانت فيها طفولة وكأنها من حكاية خرافية، كما لو أنها ابتدعت للاستعمال الطفولي. حصبة، نُكاف، جدري الماء، سعال ديكي … كلها لتذاق، ثم تخلف، غالبًا أبد الدهر، كمثل أكداس من ملابس الأطفال التي ما عادت لها حاجة، كمثل مصغرات من الملابس على الكرسي في حجرة نوم أبويه.

لاقاها الأطفال في كل أوب. كانت العلات فيما مضى محفوفة بالمخاطر وما زالت في بعض الأحوال، بل وحتى قد تكون مميتة. لما كان أصغر قد كان لا يزال المرعب الحق: شلل الأطفال. ولو أن ذاك قد تُولي أمره، ذات صباح، بشكة في ذراعه. مذعرة كفاية. إلا أنه ما قد بكى. وأمه، آنئذٍ، بالمثل قد بدت على التعيين مسرورة، ولو أنه كان ضربًا ثانيًا من المسرة. بل كان حتى في عينيها طفيف بلل. قُضي كله وانقضى. تُولي أمر شلل الأطفال. وما تعين عليك حتى أن ترقد في السرير يومين. شكة في الذراع. كان معناها استحالة إصابتك به أبدًا؛ لأنه قد صار فيك، إن جاز القول. قد جربت أمه أن تبين. كان يسمى تطعيمًا.

ثعلبٌ ثانٍ. في النور الكابي لا يسعك إبصار وجوهها أو حتى فرائها المحمرة، لكنه على الدوام قد ظن أنها كانت هازئة.

قد كانت ستائر حجرته نصف مغلقة؛ علامة مرض. أُسكت فمه ثانية بإدخال المحرار. الدكتور هِندرسن معتدًا بتشخيص أمه المسبق، أخرج أدوية من حقيبته وأعطى أمه كُليمات إرشاد. حبتين لتأخذا من فورهما. كتب وصفة تكميلية. ثم أزال المحرار، نظر فيه، مسحه محاذرًا، ورده إلى أنبوب صغير مملوء بالسائل.

“حال لطيفة يا چيمي. لا تكاد تكون فيك حمى. شهدتُ ما هو أردى. ستخلص. ستصح كالمطر في أيام معدودات إن فعلت على ما تقول أمك. ولا مدرسة أقله أسبوعًا”.

ستخلص!

“أما في أمر التورد يا أيها الشاب فما لي علاج ذاك. سيكون عليك أن تتولى أمر تلك بنفسك”.

زم شفتيه، في جدية وفي نقيضها، ثم طابقًا حقيبته، قام من على كرسيه ونظر في ساعته.

“وعدتني أمك كوب شاي”.

قُدم للدكتور هِندرسن دأبًا كوب شاي.

أمه قامت بالمثل، ووقفا سوية جنب سريره، كما لو أنه كان ذريتهما. قال الدكتور هِندرسن: “ولا لعب مع صحبك. لكنك قد فعلت تلك. حفلة يوم مولد بديعة. أنت مسعود أنك ما فوتها. إني آسف أني فوتها أنا نفسي”.

ثم نزلا تحت، مخلفينه مع خاطرة أن الدكتور هِندرسن قد لا يدخل حجرة نومه ثانية أبدًا. لو أن هاته كانت العلة الأخيرة. وثم مع الخاطرة لا واخزة كثيرًا، لكنها محيرة: لم عسى الدكتور هِندرسن يكون آسفًا على تفويته حفلته؟ أقد دُعي؟

وثم مع رجعة الصورة المباغتة -إذ هو راقد في السرير- لتلك الحفلة، كل تفصيل فيها. ذكرى عمرها أسبوع ليس إلا. لكنها الساعة بعد ستين سنة وزيادة، أتتها حادة وقاطعة كأنها حديثة عهد.

تلك الحفلة! حتى حضور الدكتور هِندرسن المفترض فيها. ولو أنه لم كان عساه يكون فيها؟ لم كان عساه يكون واقفًا هناك -ضيفًا مميزًا- في جماعة الأمهات؟ ما كان في الحفلة بالغون سوى الأمهات. ما كان رجال. حفلة عصرونية كانت. كل الرجال غابوا في العمل. كل الآباء. كل الأطباء بالمثل.

لكنه كان حق. حفلة بديعة كانت. غشيته الساعة ثانية. أحسن حفلات يوم مولده؛ لأنه -مع كل ذاك- كان ابن عشر، صبي كبير، رقمين إلى اسمه. وأحسن حفلة لأنه -لكن هذه عرفها الساعة -كانت مدركة بعد فوات الأوان؛ لا علامة ولا كلمة قد أحرز آنئذٍ- في أقل من سنة لسيأخذ أبواه في عدم العيش سوية. العالم لسيتقوض.

ما كانت أمه والدكتور هِندرسن على ما قد اشتبه، بل وتمنى على نحو مُنكَر. مضت أمه بعض الأحايين لتعود الدكتور هِندرسن وحدها. لكن هاته ما كانت إلا لـ “تعود طبيبها” في عيادته. “شؤون نسائية” قد قال أبوه ذات مرة في حيرة عن هاته العودات. ثم هز كتفيه، كما لو أنه ما اكترث.

موازنًا الأمور ومستنتجًا قد تساءل لو أن هاته “الشؤون” ربما لها شأن بالأخ الصغير أو الأخت التي قد وُعد بهما فيما مضى. لكن الأكيد أن ذاك كله قد انقضى منذ أمد طويل، طويل قبل أن يبلغ عشرًا. قد أجمعت أمه على واحد وكفى. وكمثلها قد أجمع هو على كونه الواحد. كان أمه وهو. ثم قد جرؤ على الاشتباه بأن العودات قد لا تكون في أمر طبي البتة.

لكنه قد كان أبوه. قد كان الوجه الثاني. لما مضى أبوه إلى العمل ما اكتفى بعض الأحايين بالمضي إلى العمل.

ولو أن ما في هذا ما غمم حفل مولده العاشر، لا أزيد مما كان للاعتلال الذي ليناله بعد أسبوع.

حفلة بديعة في نهار صيفي بهي في الحديقة التي امتدت تحت نافذة حجرة نومه. لو أن قد قام من سرير مرضه قد كان له استجلاء مشهد حفلته. لكنه ما احتاجها: كان في ذهنه.

كما كان في ذهنه الساعة.

على المرجة تفرق ضيوفه؛ صحبه من المدرسة. قبل ساعة ليس إلا قد كانوا جميع في المدرسة والمرجة قد كانت مرجة لا غير، تستدفئ على مهل في شمس يونيو. إلا أن تحولًا قد وقع. الصبية -بما فيهم هو- قد دُسوا في أقمصة نظيفة والفتيات -أطوع ربما- في فساتين حفلات. ثم قد اجتمعوا ثانية في بيته وجعلوا المرجة ملكهم.

على السطيحة الضيقة بين البيت والمرجة انتصبت طاولة تحمل طعام وشرابًا، وحواليها تألبت الأمهات، عليهن فساتينهن للحفلات. تحت الطاولة، مخفيه مفرش طاولة يتدلى حتى الأرض، قد كان، ولو ليس حينًا طويلًا، كل ما احتاجته سلسلة ألعاب حفلات، وهداياها. كل واحد -فهم- كان ليحصل على هدايا، لكنه لسيحصد الأكثر والأحسن.

وإذن قد حدث. ما لبث ما كان على الطاولة أن نُهب – لسيحتاج مفرش الطاولة آخر الأمر غسلة محترمة- وما كان تحت حقق غرضه. صارت المرجة لا مبعثرًا عليها الأطفال وحسب بل وأوراق التغليف الممزقة والمكومة وغيرها من مخلفات الألعاب، ناهيك عن جملة من الصحون الورقية الملطخة واللزجة والأكواب، منها المُداس.

وكل هاته المهملات الفرحة كانت إشادة بجهد أمه ومشقتها. أي كد لابد تعنته ذاك النهار؛ معدة كعكات شهيات صغيرات -وواحدة كبيرة- ومعها المثلجات، الجلو، قوارير الليموناضة، دوارق ليمون وبرتقال هريس ليوضع فوقه مكعبات ثلج من الثلاجة الجديدة. في الفاصل بين رجعته من المدرسة واستفتاح هذا كله قد راقبها تعد كل شيء في بروع ما فيه ذعر، على محياها بسمة مطمئنة. أي عمل لابد عملته -تغليف كل هاته الهدايا بالمثل!!- وفي أي ظفر وأي أناة قد حصدت نتاج عملها.

في الوحدة -عما قريب لسيتضرع في سره؛ ليوكد وقاره الحتمي- لأجل رباطة جأش أمه المنشغلة قبل حفل مولده العاشر.

في آخر لحطة قد صعدت على عجل إلى حجرة نومها لتلبس فستانها للحفلة. ثم ظهرت عليها فستان كان دوامات ضخام من نوار أحمر على أبيض، وبها رائحة عطر خفيفة رقيقة. ليسيُترك فستانها النهاري على كرسي الريجنسي.

ثم أخذ جرس الباب الأمامي يرن.

أبصرها كلها الآن، إذ ساق نحو ما لم يكن حفلة البتة: الأطفال متولي أمر المرجة، النسوة في إذعان إنما في تنميق وتذويق متوليات أمر الطاولة، يوزعن الطعام والشراب ويخطون على العشب، بعضهم منتعلات كعوبًا غير موائمة، ليتولين أمر الألعاب وتوزيع الهدايا الحاسم.

أسماء بعض من أصحابه، ضيوف حفله، ردت إليه بينة، ولو أنهم ما قد خطروا على باله منذ عقود: بوبي سكوت، نيجل وِلسن، هِلن فليتشر، ويندي سيمز… هناك كانوا على المرجة. أين كانوا الساعة؟

حفل للأطفال والأمهات كلاهما، حد خفي متذبذب بين الاثنين. لكن كانت هنيهة لما الأمهات كلهن تطلبنه. جررنه عن مكان صدارته على المرجة وانتحين به. قلن قولات من قبيل: “عليك ألا تنسانا يا چيمي”. أو “دع لنا منك نصيبًا بالمثل”.

كانت السيدة سيمز من قالت تلك. “دع لنا منك نصيبًا بالمثل”. أيما كان معناها. قالتها إثر أن قذفت في فمها -تكاد تكون كاملة – واحدة من الكعكات الصغيرات، وإذ فعلتها برزت عيناها وجحظت على النحو نفسه الذي نحته ابنتها لما جربت الشيء نفسه. نفضت خطافًا فتات الكعك عن شفتيها، ثم هزت أصابعها في الهواء. كان فستانها للحفلة مطبعًا بالزهور بالمثل -فقد كانوا في حديقة – ومن غير أكمام وطوقه واسع. لما مسحت فمها وقع من النثار قطعة كبيرة في تقويرتها واختفت. أعرفت؟ آرأت أنه رأى؟ لكنها قالت بعد الهزة: “دع لنا منك نصيبًا بالمثل چيمي”. وزادت: “نحن البنات بالمثل”. إذن: كل الأمهات صرن “بنات”. كانت مربكة.

وثم قالت والذي كان حتى أزيد إرباكًا: “طيب يلا يا چيمي، عليك أن تخبرنا”. دارت عيناها حوالي المرجة المكتظة: “يسعك أن تخبرنا. أيها تستحب أكثر؟ أيها الذي تفضل؟” ثم كما لو أنها ترد نفسها قالت: “أي فستان حفلة؟” أزيد إرباكًا وأزيد. أكان قصدها – على ما قد خطر له برهة- “أي بنت؟” أم قصدت “أي فستان؟” أم كان واحدًا قصدها ونفسه؟ ليجيب أكان عليه أن يفصل البنات عن فساتينهن؟ التي كانت خاطرة. أكان عنده جواب أصلًا؟

إذ ما نطق بقولة. تخبط؛ مغناطيس ارتباك. أكانت السيدة سيمز تريده عن حق أن يختار ابنتها؛ ويندي؛ كلاهما الفستان والبنت؟ ثم أم ثانية -أكانت السيدة سكوت؟ – قاطعت: “إنه يتورد استحياءً!” أردى وأردى.

إلا أن أمه قالت على عجل وفي تلطف: “اتركنه في حاله. دعنه وشأنه. هذه حفلته”. ما كانت تأنيبًا للنسوة الأخريات؛ بل إبلاغ رقيق صغير خلصه من فوره. أحس ثانية الساعة -رجل في الثانية والسبعين من عمره وراء مقود سيارته- لمسته الحامية تطير إليه كطير.

وأقد انقطع من فوره عن تورده؟ أنى له أن يعرف؟ والراجح أنه ما عرف أحد- ولا حتى السيدة سيمز- أنه ما كان يتورد استحياءً لا من الخيار الذي أُنيط به بل من خاطرة تلك النثارة التي قد هوت في فستانها. أين قد مضت؟ ومن خاطرة أن فساتين حفلة الراشدات هاته تحف حواليه، وتلج، وتهمس، والتي قد اُرتديت في صور أعوص من التي على البنات، و- وكان في قولها شبه صحة أقله- لأجله خاصة.

لبرهة قد كان تدعيه النسوة، بل حتى حُمل على أن وقع في نفسه أنه لهن. وحُمل على إدراك أنهن كن بنات بالمثل. ولبرهة بالمثل في أعقاب تدخل أمه السحري قد كان كأنه يرى كل شيء بأعينهن. لا مشهد الحفلة وحسب، مشهد المرجة المنثور عليها الأطفال وحسب، التي ما زالت على ما يفترض صانت خياره السري، لكن كل شيء. كل شيء حواليه. لا المرجة وحسب بل ما بقي من الحديقة والحدائق المتاخمة، كل مرجاتها وتعاريشها وشلالات وردها وأشجار تفاحها وأجماتها من شجيرات الكُوبيَّة. والبيوت بما لها من أسقف أحمر تبليطها ونوافذ متلألئة، غير واحدة فيها مشرعة على مصارعها كما لو لتستدر نسمة بهيجة في هذا الظهر الساطع.

خلى عينيه تمسح الأنحاء، على نحو ما -رأى- مسحت أعينهن بين الفينة والفينة الأرجاء في تدويخ لتحطن بها. كل شيء.

البيوت -قد خُبر ذات مرة- كانت في نحو عمره. قد كانت حديثة لما انتقل أبواه. بيوت الرواد. اليوم كانت راسخة ومكينة وعمرها عشر سنوات لكن ما زال لها بهاء الحداثة. كمثله. في البيوت كانت ثلاجات حديثة، تلفازات حديثة.

ولو أنه لا جوانيها ولا برانيها حتى في هذا اليوم المشع كان الآباء كلهم، من -لكن أقد خطرت له هذه ساعتئذٍ؟ – كانوا يعملون كاديين ليدفعوا ثمنها كلها، ليستبقوا نسيج الرقي كاملًا سليمًا.

لم عسى يكون الدكتور هِندرسن أن قد دُعي؟

هنا وهناك في الحدائق كانت أشجار طوال، ضخام، أوراقها خضراء ذهبية في ضياء الظهر، أثارة من حين قد كانت هاته كلها مزارع، أوشعة وحقول. بيت مزرعة وحظائر قد كانت فيما مضى حيث كانت مدرسته الابتدائية اليوم. كان عسيرًا تصديقها.

تطلع حواليه ووسعه حتى يرى كيف عند الأمهات لا بد كانت كأنها جنة النعيم. كل ما قد رجونه مرة وحلمن به. كانت جنة النعيم. وقد أحرزنها، كما قد أحرزن أبناءهن وراقبنهم يشبون، كما قد أحرزن هاته الحفلة -لو أنه ما قد أبصرها يومئذٍ، أبصرها اليوم- تقدير مدوخ لها كلها.

أبصر أنها كانت السعادة. ماذا بعد؟ نهج- قابضًا على العجلة- من روحها الحلوة كلها. رجل في الثانية والسبعين من عمره يقود بين جنة النعيم والجحيم.

نهج وفطن أن ذاك كان اختصاصه المختار. روح الحياة. روح.

ولم نحمر ونتورد؟ لم فينا بعضٌ نزاعٌ لهذا الحرج المذاع، الذي هو نفسه داعٍ لحرج أزيد؟ ألك أن تتورد من سعادة خالصة، سفورها يداني جلدك؟ كان عارفًا بأفعال الجسد البشري، لكنه ما عرف عن احمرار الوجنتين أزيد -على ما يظهر- مما قد عرف الدكتور هِندرسن. ما كان اختصاصه. كانت غالب الظن محنة اليافع والبريء حتى. بعد حين تبّل منها. “وجنتاك محمرتان كبنت”. أو صبي.

لكنه عرف أن له هو نفسه ما زال أن ينقلب وردي الوجه من غير علة بينة. ربما كان يتورد الساعة، في سيارته، مستحضرًا توردات منذ عقود انسلخت. ولو أكنت لتتورد -كانت مفارقة- لو أنه ما كن أحد يراك؟ وعما قريب ليخفي نفسه لا في كمامة وحسب بل وفي طبقات من الملابس الوقائية. كلها لتجنب تورداته؟

أكان الفتات في ثدي السيدة سيمز، أم السؤال المستثقل الذي ألقت به عليه؟ أكانت الأرجحية الكامنة في بطن السؤال، التي ما قد لاحت قبالة بصره في إغراء حاث؟ أن الحياة نفسها قد تكون انتقاء عظيمًا من البنات. بنات! ما أبهجها. أي سعادة.

لكن لو حقت فقد كانت الآن مقضية. امرأتا حياته. وهو نفسه قد يكون دانيًا من النهاية، مع كل ما اتخذ من عناية بمعداته الوقائية.

دانيًا من النهاية و -على ما كأنها- دانٍ من البداية. عشرة. كانت ما يقال وقوعها عندما تغرق. ترى معاشك كاملًا يمر قبالتك. وكانت ما فعل المرضى -في الوحدة- لما بلغوا النهاية. قد غرقوا.

كان المستشفى الآن دانيًا. وسعه أن يرى في حدرة الطريق مدخنة محرقته الطويلة ولألأة النوافذ المنارة بضياء نهار أبريل غير متتام بعد. في أي حين قد تدافعه سيارة إسعاف وتجاوزه، بضجة مدوية معاجلة من صفارتها. ذات صباح قد جاوزته ثلاث.

في دقائق معدودات سيتعين عليه إطفاء ذاكرته. أن يجري نفسه لما كان قبالته ليس إلا. سيتعين عليه أن يطفأ حياته.

 كيف ستؤول هاته الجائحة؟ ما عرف أحدٌ. ما بين يديه إلا أن يبذل ما وسعه، في ساعات غير معدودة، في محل مكابدة عظيمة. ومخاطرة.

كان من العاملين الموشك على الانهيار، وسعه أن يبصرها. الطب النفسي ما كان مجاله بالمثل، لكنه وسعه أن يراها. كان عندهم بيوت وأسر ليتولوا أمرها، لا في ذاكرتهم وحسب. ما كان لهم قصور خاليات ذات أبواب مرآب أتوماتيكية.

قد قال زميل بهيج في واحدة من استراحتهم الخاطفة أن هاته ما كانت إلا عارضة خاطفة. الجائحة كانت عارضة خاطفة. ما كانت إلا صرفًا تمهيديًا عظيمًا عن النازلة الحق: أن الكوكب سيصير غير آهل للبشر، في قرن. ما لم تكن المعجزات مفروغ منها.

رأى ثانية الأشجار العتيقة المتلألئة، تحرس كأنها غفراء الحدائق. رأى المرجة. قد جزها أبوه خصيصًا ليلة مولده. رأى فساتين الحفلة. أبصر خزانة العلات تلك ترتدي منها الأنفس الصغيرة في أناقة أنيقة، ثم يطرح الملبوس في مسرة. رأى السيدة سيمز. كتفيها المكشوفين. رأى أمه. ورأى نفسه راقدًا في السرير بعدها بأسبوع لا أزيد، أمه تميل صوبه والدكتور هِندرسن على كرسيه.

كان بسبب الدكتور هِندرسن -كان متيقنًا منها- أن قد أرادته أمه أن يصير طبيبًا. اثنتيهما قد طلعا من حجرة نومه ونزلا تحت لأجل كوبهما من الشاي. ما وسعه إلا سماع لغط صوتيهما. لا كلمات. محادثات الراشدين. ثم قد غادر الدكتور هِندرسن.

لكنه سمع ثانية أمه تقول للدكتور هِندرسن على الكرسي المخطط: ” ما لم يكن في استحياء ورّد وجنتيه ليس إلا”، ولو مع تلك النظرة التي كان معنيًا بها، راقدًا تحت الملاءات. ومن ثم عرف -إثر أن استتم الدكتور هِندرسن تشخيصه- أنه لا بد في يوم مولده العاشر، في حفل مولده البديع أن قد نالته الحمى القرمزية.

حب متأخر- چويس كِرول أوتس (قصة قصيرة)

(خوف، چان ديبوفيه)

كانا متزوجين من عهد قريب، كلٌ مرة ثانية إثر عيش سنين خليًا؛ كمثل مخلوقين من الرواعي من مرعيين منفصلين وجدا نفسيهما على حين غرة – من يعلم العلة- مساقين إلى الروضة نفسها ويرعيا الكلأ نفسه.

أن كانا “في غير الشباب” ولو أن الرائيين وصفوهما بـ “في صبا أخاذ” لا بد كانت قطعة باتعة من استهوائهما بعضهما البعض.

ك_ أرملة، و ت_ مطلق منذ عقد انطوى (من امرأة صارت راحلة)، كلٌ وحيد في محيط مشغول من الأصحاب والزملاء. صدقت الأرملة نفسها أفدح ضعضعة من أفاعيل الدنيا من الزوج الجديد، من صيته مؤرخًا ومثقفًا شهيرًا عزز الوقع الجماعي في النفوس أنه كان رجلًا قد أرته الدنيا منها خيرًا. هي لا غير، من كانت زوجته فيما مضى من عرفت أي مزعزعة ثقته بنفسه الزوج كان، أي معولٍ صبره كان من الذين وافقوه، الذين جاملوه، الذين أجلوه.

“فضلًا يا حبيبة. شكرًا لكِ جزيلًا لكن لا تداريني”.

هاته القولة، منطوقًا بها للزوجة سرًا، كانت ممازحة وتحذيرًا على حد سواء.

بُعيد زواجهما، وسكناهما سوية في منزل الزوج -الأكبر والأميز في منزليهما، خمس حجرات نوم فسيحات، سقف مقرمد قرميدًا داكنًا على طراز الأمريكان كرفتزمَن مع منزلة معلم وطني، على ضهرة وراء الجامعة- أيقظ الزوج الزوجة ليلًا، يحكي في نومه، أو الأحرى يجادل، يتضرع، يستجدي في نومه، في قبضة حلم منه الزوجة عسر عليها تخليصه.

أُوقظت الزوجة برجة. لا تكاد تبين من هذا المضطرب جنبها كان، ظهره العريض المتعرق ناحيتها، في سرير غير مألوف ومرتبة خشنة، قاسية ومخدة من ريش الإوز ما كانت قط لينة، في حجرة أبعادها وأركانها المنطوية فيه الظلال كانت غريبة عنها.

في رقة مست الزوجة كتف الزوج. في رقة جربت إيقاظه، راغبة عن إجفاله. “يا عزيزي؟ إنك في كابوس”.

بنفضة ألقى الزوج يد الزوجة. ما صحا غير أنه كأنه اجتحر في الحلم أغور، كما لو أنه وإذ هو آسره خصيم خفي، خفوت راغبٌ عن تخليصه. كانت الزوجة مسحورة -ولو أنها جافلة- للنحو الذي عليه قد أبلغ الزوج نفسه هيئة حمى: التيشرت والشورت اللذان لبسهما بدل البيجاما كانا منقعين كلية، وبدنه ارتعش بلفحة من حرارة محمومة، كمشعاع فيه الماء الحار المنبعث بخاره جرى متدفقًا لا غير معوق. مسحورة بالمثل من كلمات الزوج المكتومة من أثر النوم، التي كانت بينة أو تكاد. كمفردات في لسان أجنبي تشابه الإنجليزي ألصق شبه حتى لتفضي بك إلى الظن بأن معناها سيتضح أي حين.

مع ذاك ما كان أي منها. والآن قد أخذ الزوج يصر على أسنانه ويغمغم.

ظهر أنه مُضيق عليه، مهدد. قرقرة خافتة في حنجرته انقلبت أنة، استعطاف. ارتعشت ساقاه كما لو أنهما كانت تحاولان الجري وما قدرتا لأنه كاحليه كانا مقيدين.

مع ذاك ترددت الزوجة. بدا لها مذمومًا إيقاظ نائم نومًا غاطًا كُرهًا على أن على قدرها مذمومة -أو أردى- ألا يوقظ من كابوس. ذكرت الزوجة أنها لما كانت صبية قيل إن قريبًا مسنًا مات في نومه من نوبة قلبية، التي قد زعمت زوجته أن محدثها كابوس. لكن أقد يكون إيقاظ زوجته عجل النوبة القلبية؟ أم قد تكون النوبة القلبية الموشكة عجلت الكابوس؟

محاذرة هزت الزوجة كتف الزوج ثانية، هزة شديدة كفاية لتوقظه شبه متذمر.

صمت مباغت في الزوج؛ حتى نفسه المجهد أمسك، وفي لمحة كان واعيًا، متمالك نفسه في صلد كأنما في حضرة عدو.

من غير لمسه وسع الزوجة أن تحس نبض الزوج المتسارع. اهتز السرير برعبته.

“عزيزي؟ آنت على ما يرام؟ ما هذه … إنها أنا”.

و: “كنتُ في كابوس وأي كابوس. كنتُ تتحدث في نومك”.

لكن الزوج ما التفت صوبها.

ما أغرب هذا كان! الدمدمة، الاستعطاف، والأنين، والآن ما وقع منه. ليس كمثل الزوج في معاش صحوه البتة …

ما أبعده شبهًا عن زوج الزوجة الأول بالمثل، من في ست وثلاثين سنة زواج ما قد تكلم في نومه قط، ليس على هذا النحو أقله. ما أنّ أو هاج في كابوس قط.

دنوًا جنب الزوج رقدت الزوجة آملة أن تسكن نفسها، تسلو، تطمأن، لا باستفاضة في حديث بل بسلوى الحميمة والتداني؛ كما قد يطمئن الواحد طفلًا مذعورًا، مخلية الزوج يحس وجودها. يسمع نفسها، المنتظم. إنما هنا أنا. زوجتكِ التي تحبك.

في سذاجة حسبت الزوجة أن في لحظة ثانية أو اثنتين الزوج (الودود عادة، العاقل حقيقة) سيتبين الوقعة، يطرح عنه الكابوس، يلتفت ليضمه بين ذراعيه.

لكن: أقد يحتمل أن الزوج نسيها؟ إذ زواجهما كان حادثًا، ما أتى عليه سنة. حملٌ قائمتاه حمشاء، غرر على رجليه. عُرضة للضواري.

جاءت كل يوم هَبة من القبلات، خفيفة ومتقلبة كالفراشات. نكات سخيفة جرت بينهما. كلٌ كان شاكرًا الآخر. لا سيما الزوجة كانت شاكرة الزوج. إنما كم سيطول بهاته الفترة الطربة الأمد؟

أخيرًا تسرب التوتر من بدن الزوج. استرخى كتفاه؛ تنفس في انتظام أزيد. ذاهبًا في نوم على العادة.

الحمد للرب! اعتمل في نفس الزوجة انشراح بالغ، كما لو أنها قد تفادت بشق النفس الخطر.

واضعة نفسها لتقابل البراني، ناظرة في الجدار وما عليه من ظلال، شاءت أن ترتاح، شاءت أن تنام، ولو إذ ولفزعها بدأت تسمع صوت طقطقة وراءها.

متيقظة ومروعة أنصتت الزوجة. أكان هذا صوت أسنان الزوج؟

كان فكاه يرتعشان في تشنج على ما بدا. كما لو أنه كان برادنًا بردًا قارسًا، يرتعد من البرد. صوت محير أثار الشعرات في قذال الزوجة.

كرة ثانية! الدمدمة الخافتة، الفزعة، المهضومة. ما كان الزوج يقول؟ أصغت الزوجة، يقظة الآن.

الآن يقظة في بؤس. يقظة في يأس.

مجربة أن تفك رموز الكلمات المبتورة. مقاطع صوتية خشنة. كحصباء تطير في الهواء. امتلأت نفس الزوجة هولًا. آرادت عن حق معرفة ما كان الزوج يقول في نومه؟

متسائلة بالمثل إن كان حتى أخلاقيًا استراق السمع هكذا. لا سيما على زوج في حال مُعورة. كما لو أن نفسه كانت عارية.

في حياتهما نهارًا ما كانت الزوجة لتسترق السمع على الزوج ولو قد سمعته يتحدث بالهاتف مثلًا. لا سيما إن كان يحكي في مثل تأجج.

أي صورة من حديث ما خوطبت به قصدًا كانت الزوجة لتتردد في سماعه.

شق عليها أن الزوج (النائم) ما كان فيه خلا طفيف شبه من الرجل الذي عرفت، من كان ذا صوت جهير أول جهوري ونضح بسكينة ثابتة الجأش.

كان الرجل الذي عرفت ينتصب بقامة أزيد من ست أقدام، ذو كتفين عريضين، رأس شعره كثيف فضي فيه من لون النحاس توهج منحسرًا عن جبينه، عينين تغضنت في ركنيها من تبسم لازم سحابة معاشه. شِقق عريضة من شعر خشن نبتت في إبطيه، على ساعديه وساقيه، على ظهره. ما قد سمعت الزوجة هذا الرجل يستعطف أو يأنّ أو يتأوه قط.

  الرجل جنبها في السرير لاح أقصر من الرجل الذي عرفت وأغلظ بدنًا، ذو ظهر متعرق بدا ضخمًا. كأن الزوجة كانت تعرف أن بطن الزوج (النائم) سيكون رخوًا، متدليًا من أثر الجاذبية. محاشمه ستكون غليظة لكن مترهلة، الأكياس الجلدية حَمِرت، كرُّعْثَنُونتي ديك حبش غاضب.   

إذ الزوجة أصغت بدا ظاهرًا أن الزوج (النائم) كان فيما يشبه تنازعًا، فيه هو -أو صدق نفسه أنه- الظليم؛ كان يُسخر به، يُبرح، يعذب. كان يُدفع إلى خنع. أكان الزوج يستحضر تنازعًا مع واحدٍ في الجامعة؟ قد تقاعد من رئاسة قسم التاريخ بعد اثنتي عشرة سنة؛ تولٍ طويلًا أمده طولًا يستلفت أن آتاه إداري جامعي، كان ما يزال فعالًا في الجامعة والشؤون المهنية، ونشر غير مرة في حقله التاريخ الطبي.

كل هاته قد عرفتها الزوجة من آخرين. إذ أن كبر الزوج الرجولي كان بالغًا حتى أنه ما كان لينحط أبدًا إلى التباهي بإنجازاته، ولا كانت الزوجة لتأنس إن فعل.

عن زواجه السابق قلما الزوج حكى. ولا استحث الزوجة لتفصل عن معاشها قبل أن قد لقيته.

الزوجة الأولى، الراحلة كانت من ما حكى عنها إلا قلة، ولو أنها كانت أم أولاد ت البالغين، الساكنين اليوم في ولايات قصيات.

هي، الزوجة (الجديدة) كانت محجمة عن سؤال الزوج ما خص من سؤال. خجلًا، خشية أن الزوج سيؤنبها، سينزعج.

كانت شكورته شكرًا كثيرًا أن قد ألقى لها بمنجية؛ حبلًا قد أخذت به وتمسكت لنزع نفسها من حمأة اليأس الفوارة.

غير مرة ليلًا عقب وفاة زوجها الأول قد قلبت فكرها في أن تودي بحياتها. مأخوذة بالنحو: أودت بحياتها – لكن أودت بها أين؟

“عزيزي رجاءً! استيقظ“.

أخشن مما قد أرادت وكزت الزوجة براحة يدها على ظهر الزوج.

“ماذا! ما الأمر؟” صحا الزوج فجأة.

“عزيزي رجاءً إنها أنا. آنت على ما يرام؟”

وسع الزوجة سماع نفس الزوج. وسعها أن تتصور أسنانه مكشوفة في كشرة سانية، نُهير عرق دهني على وجهه.

“كنت في كوابيس رهيبات”.

تلمست لتنير مصباح جنب السرير، والتي كانت هفوة: في شدة عبس قطب الزوج جبينه معرضًا بجنبه عن الزوجة، حاجبًا عينيه الحوص عن النور كما لو أنه ما كان نور حجرة نوم خفيض الواطية؛ بصيص الحميمية الزوجية الخافت، بل فنارٌ يعمي الأبصار يوردها وجعًا.

“يا مسيح! إنها الثالثة فجرًا ألزمكِ إيقاظي؟”

“لكنك كنت في كابوس”.

“كنت في كابوس! كل مرة لعينة أحاول أن أنام فيها كنتِ توقظينني. أطفئي المصباح الملعون. عندي صحوة باكرة غدًا”.

تلهوجت الزوجة على عجل لتطفأ المصباح. أخرستها الفجأة، الكدر. ما وسعها حتى لجلجة اعتذار.

مبهوتة بما تبدى من وجه الزوج في ضياء المصباح، منقبضًا من غضب وقرف ومسحة مذلة أن هي، الزوجة، الزوجة الجديدة، قد رأته مكشوف معرى أيما كشف وأيما تعرية، مصيره عاجزًا كابوس.

المرة الأولى التي نرى فيها الآخر عاريًا: انقطاع القلب من الوجود الجسدي، النفس المادية، التي لها لا عدة تعدنا ولا تهيؤنا.

“إني آسفة، آسفة كثير الأسف. ألك أن تسامحني؟”

قد كان على الزوجة أن تتساءل أقد كان الزواج غلطة.

غلطة: أخذ شيء أو واحد على ما ليس فيه. سوء قبض.

الرجل الذي عرفته الزوجة، أو كانت لتزعم معرفته، ما قد آتى الصبيانية مسلكًا قط، الإضرار، الحمق. كان رجلًا وسيمًا سلك سبيله في كرامة، في ثقة. كان يسيرًا، دمثًا، رقيقًا. تبسط في ملبسه إنما أنق. وضع نظارة إطارها سلكي أضفت عليه طلعة شبابية، علمية لاقت بمحله في الدنيا. لو اعتمل في نفسه مأخذ كان الأرجح منه إبداء رأيه في هدوء. ذاك الرجل ما لاح على محياه أوجه ولا بها واجه. ما أبدى غضبًا، حنقًا.

كان وجه الرجل الناهض من النوم ظليمًا صرف، مُتَهِمًا. ما كان وجهًا وسيمًا بل خشنًا، لحيمًا. بشرته المحتقنة كانت متغضنة بدقائق من تجعيدات، والعينان خلو من النظارة ذات الإطار السلكي كانتا متورمتين وحمراوين حمرة عيني ثور مُخيب.

في وحش مضطرب أيما اضطراب مهلكة؛ الزوجة عرفت، وارتعدت.

كل هذا كان سخفًا! لا محالة.

ما لا يخطر على بال الواحد إلا ليلًا.

نام الزوج، الزوجة رقدت يقظة تصغي إلى نفس الزوج الثقيل. الحمد للرب هذا بدا نومًا على العادة.

الآن في هذا السكون العارض راحت الزوجة تساءل ما قد جرى. واقعٌ في نفسها أن الزوج قد لا يكون أبصرها، تبينًا.

قد بوغت بإيقاظه في خشونة؛ ما قد كان ذهنه عاملًا على التمام.

هذا كله على الجملة كان وجيهًا. هذا كان فيه سلوان، ولو أنه مُشكل: لو أن زوجي لا يبصرني، فمن إذن يرى؟

على التدريج راحت الزوجة في النوم. غبش دفيء مضبب علا ليغشاها، كطين مخلوط في الماء.

على شاطئ، في البرد، رملٌ واهٍ، كانت تجرب أن تسير حافية دون تبديل كاحل، موجة زبدية تطرق قدميها، جارفة ما لا يوصف على الرمل: قناديل بحر شفافة متمعجة، أنقليسات متلوية مبقعة ببقع غامقات، سمك منكوب ما له عيون، شلات عطنة من حمول البحر. وفي هاته التي لا توصف كانت خاطرة أن الزوج قد (محتمل) قتل المرأة الأخيرة من قد نامت على هذا السرير في البيت الذي على طراز الأمريكان كرفتزمَن على ضهرة فوق الجامعة، الذي قد صار إلى معلم في المجتمع، الذي فيه قد نظرت الزوجة من حين لحين بإعجاب وإكبار، ولو ما كان حسدًا.

هذا كان البيان! الزوج بالعينين المحتقنتين بالحنق قد أبصر امرأة ثانية في السرير. الزوجة (السابقة) لا ريب. قد قتلها في نومه في حنقة. لأنها قد أبصرته عارٍ، عليه التيشرت المنقوع بالعرق والشورت. نظرت في نفسه الفُزعة.

ما من رجل يغفر لامرأة أن رأته كسيرًا.

أقد خنقها؟ للزوج كانت يدان أولاتا بأس.

إذ أنى لزوج أن يقتل نزوة زوجة في سريرهما؟ ما كان ليطعنها أو يطلق عليها النار؛ ذاك لسيلوث الملاءات، مخليًا الدم يتسرب إلى المرتبة ويتخللها والنوابض.

إذن: الاختناق بالمثل. ذاك كان احتمالًا.

أرجح ربما من الخنق، الذي سيلزم فيه قوة، إطاقة، صبر. لزوم النظر في عيني الزوجة (المُحتضرة) إذ أعتمتا، صارتا تائهتين.

كبس واحدة من مخاد ريش الإوز هاته على وجه الزوجة. فوق الأنف والفم. شل الزوجة التي جن جنونها، المتخبطة، لا تقدر على فتح فمها لتصرخ.

لكن أي مخدة؟ أيكون ت استبقى المخدة التي بها قد خنق زوجته (الأولى)، أو يكون تخلص منها؟

لكن لا. الخاطرة كانت متعذرة، شنيعة؛ خاطرة مخدة ريش الإوز مكبوسة على وجه.

محالة، إنما أخاذة.

كيف لك أن تكون مسرفة في السخف، جحود؟ هذا الرجل نجاكِ. هذا هو الرجل الذي يحبك، من تحبين. هذا الرجل الذي نشلكِ من النسيان.

بغتة: كان الصباح.

عينا الزوجة شاخصتين، عجبى. (ما قد حل بالليل؟)

وحدها في السرير عالي القوائم. تسمع من الحمام الملحق نقر صوت المرشة.

تسمع الزوج، تحت المرشة، يدندن مع نفسه. الزوج الذي أسمى نفسه “صباحي”.

انسكب ضياء الشمس من نافذة.

إذ أن هذه سنة بياض اليوم: أيما وقع في الليل يتلاشى كمثل صورة على شاشة إذ الأنوار شُغلت.

على عجل بدلت الزوجة الملاءات المجعدة، الآسنة رائحتها. انتزعت الشراشف من السرير، شق عليها نفض مخاد ريش الإوز لتطلعها من أغطيتها القطنية المتسخة.

ثم في السطيحة الخلفية، حيث استحب الزوج أن يفطر إن طاب الطقس، أتته الزوجة بالتايمز إذ وُصلت، رفع الزوج بصره، متبسمًا لها، الجلي أنه لا يذكر من الليلة شيئًا.

 “شكرًا يا حبيبة!” قبض لعوبًا يد الزوجة، مقبلًا الراحة الرطبة.

حبيبة. عرفت الزوجة نفسها مبرأة، محبوبة.

ثم بعد غير ليلة أيقظت الزوجة كرة ثانية تمتمة حلقية خفيضة جنبها دنوًا في الظلمة. وطقطقة أسنان مرتعشات طقطقة غريبة كالصنوج.

أيقظتها رجة في عتمة حجرة غير مألوفة.

ومخدة ريش الإوز السميكة، القاسية في وثارة تحت رأس الزوجة، التي آلمت رقبتها هاته بالمثل كانت مُتوهة.

في أيام الزواج الأول قد بدلت الزوجة مخدة صغيرة في جنبتها من السرير، إلا أن الزوج قد تنبه من فوره، قد عارض في أسلوبه المُضمر، المشوب بسخرية، منتبهًا إلى أنه لما وضعت مخدة مسطحة جنب مخدة ريش الإوز البطانية المحاكة يدويًا التي غطت السرير بدت خرقاء في شكلها، لا متساوق: “كامرأة قد أزيل لها ثديٌ واحد؛ تساوق الجسد الجميل تقوض”.

استئصال ثدي! قد ضحكت الزوجة، جفلة. كان التشبيه غير وارد على بال ولا خاطر. غير أن الزوج كان يتبسم؛ الزوجة رأت. ما قصد عدا الظُرف.

الواحدة وعشرين دقيقة. قد كانا في السرير أزيد قليلًا من ساعة. تلك الليلة قد تعشيا في منزل لصحبة قديم عهدها من صحب الزوج، من قد عرفوا الزوجة الأولى لكن كانوا ودودين وبالزوجة الجديدة مرحبين. قد كانت الأمسية مجهدة للزوجة، لكن الزوج كان آنسًا على نحو ما قد رأته الزوجة منه قبلًا، يشرب أزيد من العادة؛ ولو في غير إفراط؛ إذ الزوج ما قد آتى الإفراط. ما هي إلا كأسين أو ثلاث من نبيذ أرجنتيني أحمر لذيذ (زعمًا) وجدته الزوجة لاذعًا كثيرًا. لا أن الزوجة فقهت في النبيذ كثيرًا، أحمرًا أم أبيضًا، أرجنتيني أم سواه.

قد غفى الزوج ما أن قد قصدا السرير، أما الزوجة فقد رقدت يقظة تقلب فكرها في الأمسية، على نحو ما قد يعيد الواحد مقطع فيدو آملًا أن يرصد ما استدق من تفاصيل قد جاوزها النظر أول مرة، مبصرة ثانية المضيفين الأليفين يتبادلان النظر لما كانت الزوجة تتحدث كما لو أنهما -واردة ومحتملة- كانا يقارنان الزوجة الجديدة بالزوجة السابقة، الراحلة، التي قد عرفاها سنينًا. أما ما اعتمل في نفسهما من الزوجة الجديدة، ما كان معنى نظراتهما فما قد كان عند الزوجة منه علم ولا خبر.

“أتظن صحبك استحبوني؟” قد جرؤت الزوجة على السؤال في السيارة إذ ساقهما الزوج إلى البيت، ولو أنها عرفت أن السؤال لسيحرج الزوج أو يزعجه، الذي ما استحب أن تبدي زوجته حاجة، أو أسى، أو سذاجة مراوغة؛ والزوج قد ضحك، لا في غير تلطف، قائلًا في شدة: “لا محالة! لا محالة فعلوا”.

لكن غير متوسعٍ في الأمر. غير مستحثٍ الزوجة على الاستزادة في أسئلة حمقاء. غير سائلٍ الزوجة إن هي قد استحبت صحبه، أو قد استطابت الأمسية، أو أملت أن تكررها.

صحبها الزوجة ما كانت حريصة على تعريفهم بالزوج. فالأصحاب الذين قد عرفت في زواجها الذي امتد ست وثلاثين سنة ما كأنهم كانوا عندها يدانون ما في نفسها من عناية بالغة بصحب الزوج (الجديد)، ولا أبدى الزوج (الجديد) أي حرص أو تلهف للقائهم.

رقدت الزوجة يقظة تعذب نفسها بمثل هاته الخواطر. كبراغيث أو بق فراش الخواطر المتقافزة التي كانت غير ذات شأن واخزة، منغصة. على التدريج تهادت إلى النوم، هابطة درجًا ومتعثرة بالدرجة الأخيرة، التي ما قد رأتها على نحو ما لأن ذباب أزازًا قد شتتها؛ ذباب خيلٍ صاخب، وبغتة رُجت فأيقظها شخص، حضور، على مقربة منها في الظلمة، زولٌ جسيم يُثقل شطره من السرير، يتمتم بينه وبين نفسه، يصر على أسنانه كأنها صنوج، يحرك ساقيه في تخبط كما لو أنه علق في شبكة أو نسج عنكبوت؛ ما أفزع الزوجة أعظم مما قد كانت فيه من فزع قبلًا؛ إذ سيكون عليها الآن أن تقر بأن هاته “الكوابيس” كانت متواترة في حياة الزوج الليلة، وعليه ستكون في حياتها الليلة بالمثل.

سدرة تفكر: لكن بمن تزوجت؟

في النهارات التي وقعت خلل أول ليلة من النوم المنقطع ما قد كان تبدلٌ مشهود في الزوج، من قد في عطف ومودة على حاله قبل. لا ذكرى، لا أثر للفاصل النحس حل بينهما. الزوجة أحست شكة دوار، تكاد تكون غثيانًا مشاهدة فم الزوج إذ حادثها في مأتاه مأتى الزوج الرقيق الحاشية، ومستحضرة تكشيرة الرجل الذي ناله نور المصباح الشرسة، الحرارة الناضحة، العرق، رائحة الإبطين، شعر المنفرج، الروائح البهيمية النتنة، ولو أن الزوج في وضح النهار كان حديثٌ استحمامه، حديثة حلاقته، شعره الفضي النحاسي سبط خلا هامته، عيناه كزجاج أزرق فاتح لا لبس فيه، صافية السريرة. كان لسيلزم جهد الذاكرة لاستحضار العينين المحتقنتين بالدم تقدحان شرر الحنق صوبها في نور المصباح، ولأي حاجة أو غرض مثل هذا الجهد؟

ولا قد أتت الزوجة على ذكر أمر “كوابيس” الزوج؛ لا محالة لا.

الزوجة ما كانت عروسًا ساذجة شابة بل امرأة في أوسط عمرها عرفت حق المعرفة ألا تسهب في الشؤون المزعجات، لا سيما لما كانت زوجة جديدة لا تبتغي إلا إرضاء زوجها الجديد.

عقب أن قد قضى زوجها الأول، مخليها لتجيل الرأي في إمكانية القضاء على حياتها قد مُنحت فرصة ثانية. لو أنها أصابت في إسعاد هذا الرجل ستنجي نفسها ومعها نفسه بالمثل. سقطة وأي سقطة قد كانت تشغيل ذاك المصباح الثالثة فجرًا!

والآن كانت تراعي في محاذرة كل أتية تأتيها. ما قد نطقت بكلمة في أمر ليلة الكابوس تلك للزوج. الحق: قد نسيتها، أو كادت.

حلم مبهم سخيف من أحلامها فيه مخدة ريش إوز، كيف لمخدة ثقيلة أيما ثقل قد تُكبس على وجه..

وجهها؟ مسخرة.

ولا قد استفسرت الزوجة عن موتة زوجة الزوج السابقة ولا ساءلت. الزوجة ما قد حتى جربت بحثًا على الإنترنت عن نعية الزوجة السابقة. إذ لا أسخف سخافة سقيمة من اشتباه في الزوج: بأيما كان…

الزوج كان يأن في نومه؛ كما لو أنه عرف حق المعرفة ما كانت الزوجة تشتبه به فيه. صيحات قصيرات، باعثات على الشفقة، نادمات، جريحات. يبدل كتفيه من جنبة لجنبة؛ كما لو أنه يجرب تحرير نفسه من تقييد ما خوله خلا قدر بوصة ليتحرك فيها أو اثنتين: الزوجة تراءى لها كابوس كنسج عنكبوت فيه الزوج كان عالقًا كحشرة؛ كلما زاد في تلويه زاد نشوبه وتعقده، والزوجة راقدة على مقربة جنبه في السرير المبعثرة أغطيته، في خطر عاجل من أن تعلق في الشبكة ومثله أن يلتهمها: ماذا؟

كان قلب الزوجة ينبض نبضًا شديدًا، ترقب صحية الزوج. إيقاظه وتحمل سخطه. إذ أنها حسبت أن ما لها من خيار: وسعها أن ترى أن الزوج في فزعته، كسرته كان يكابد.

حيوان ضريب معميه الألم قد ينفلت من عقاله، ينشب مخالبه، وينهش.

في ارتعاش وارتجاف رفعت الزوجة يدًا لتمس كتف الزوج. التفت ظهر الزوج صوبها. ما وسعها إلا تصور وجهه، العينين والاحمرار حواليهما، الفم متمعج في كرب. اعتمل فيها اضطراب سابق مرتقب، أو ارتياع، كما لو أنها توشك ومع ما كان من حسن نيتها أن تهوي من على شفا هاوية.

قولة مأثورة من أقوال پاسكال خطرت لها: نجري إلى الهاوية في طيش إثر أن حططنا قبالتنا ما يمنعنا من إبصارها.

” يا حبيب؟ رجاءً استيقظ!”

هازة كتفه. مرة، اثنتين.

صحا الزوج ونخر، يقظًا في لمحة تنبه.

“آنت على ما يرام؟ كنتَ في …”

كان الزوجة في قلق من ألا يبين منها اتهام بل طمأنة، صون.

“كابوس …”

غير أن الزوج أنكرها، في حدة وانفعال.

“يلعن. ما كنتُ. ما كنتُ نائمًا”.

كان وقع صوته وقع اليقظ الواعي الآن، ومنزعجًا أيما انزعاج. كانت هي من في كابوس، تأن في نومها وعلى أسنانها تصر.

تأن في نومها! نومها!

عزمت الزوجة ألا تجادل. سينال الزوج بغيته كما قد يفعل طفل، في ظروف لخبطته وضيقته.

“أنا- أنا آسفة. ما فطنت”.

موبخة ما استطاعت الزوجة إلى التراجع سبيلًا.

(إذ أنها واردة على الدوام أننا لو تراجعنا، لو اعتذرنا، لو أننا اقتنعنا بنكران ذواتنا أن من كان في غضبٍ منا قد معه ينخدع فيشفق علينا)

هو مرعوب. سينفلت من عقاله. لا تتهميه.

أيما قد كان يبرح الزوج تلاشى عاجلًا إذ وعى. كان ذاك سلوانًا أقله.

مرت دقائق معدودات رقد فيها الزوجة والزوج في صمت جنبًا إلى جنب من غير تلامس. تراوح الزوج بين النقمة، الكره. عاجزًا عن الإقرار بأنه قد كان في قبضة كابوس، ولو أنه لا بد تساءل عن علة تبلل تيشرته وشورته بالعرق.

ثم بغتة وقف، يؤرجح ساقيه براني السرير ويرفع نفسه صعدًا على قدميه. في تلك اللحظة كان الزوج بليدًا، أخرقًا على نحو ما قد رأته الزوجة منه قبلًا قط.

أما لما الزوج أخذ على العادة حذره ألا يقض مضجع الزوجة إن هو اضُطر لقصد الحمام ليلًا كان الساعة لا يبالي في جلف بحضرتها، يشق سبيله في الحجرة متوانيًا ولا يكلف نفسه عناء ردّ باب الحمام؛ مروحة الحمام دقت في صخب، نور الحمام سطع، بال الزوج في مقعد المرحاض لما بدا كأنه دهر فيما رقدت الزوجة يقظة في بؤس وآخرًا ضغطت راحتي يدها فوق أذنيها تفكر: نسيني! نسي أن له زوجة (حية)!

لما الزوج رجع -مخليًا نور الحمام مضاءً- كأنما هوى على السرير هويانًا، جاعلًا النوابض تصر في احتجاج. كأنما غفا من فوره؛ نفسه الأجش يطلع في نوبات طويلات، بطيئات.

تألمت الزوجة كأنما خداها قد صُفعا.

لكن ما كان لها من خيار غير أن تفارق السرير وتطفأ نور الحمام (الذي سيطفأ فوقها المروحة المزعجة). جافلة من غلظة الزوج ولو أنها حاولت أن تخبر نفسها أنه البين ما كان واعيًا؛ واردًا كان أن قد سار في نومه ومن ثم فما كان ليلام على سوء خلقه.

الحق كان: لو أن الزوج قد كان واعيًا لكان بُهت وتحير من سلوكه.

في الحمام الزوجة أغلقت الباب. قد بددت المروحة أقله بعضًا من هواء الحجرة العطن؛ رائحة الذعر التي انبثقت من جلد الزوج.

شادة أزر نفسها مما قد ترى نظرت الزوجة في انعكاسها في المرآة فوق المغسلة. هناك طفا وجه شاحب، مجهد، شبيه بقناع لامرأة أفزعها أن زوجها قد ما عاد يحبها وأن الأذى قد يطالها تبعة.

تبرد وجهه بماء بارد اغترفته بيدين مرتعشتين فطنت أن حدقتيها في المرآة ظهرتا متوسعتين على غير الطبيعة؛ كعيني حيوان ضارٍ.

ثم رأت في المغسلة حلقة غامقة ملطخة حوالي المصرف، كما لو أن شيئًا دُهني قد شطف. كانت رائحة قذرة بالمثل، كما لو أنها من بالوعة.

ثم رأت على أرضية الحمام، في ركن جنب المغسلة، شيئًا أسودًا أرقطًا كبزاقة كبيرة، نحو ثلاث بوصات طولًا، له عينان ضئيلتان بنيتان صفراوان؛ إذ دنت ببصرها أدنى انزلق المخلوق تحت المغسلة واختفى في الحقين.

حافية وثبت الزوجة راجعة. ما كان ذاك! كتمت صيحة فزع.

مستحضرة أن نظرت في الكتب في مكتب الزوج، في مكتبة ملأى بالمؤلفات الطبية القديمة. كتب عتاق حتى أنها تفسخت بين يديها. سجلات الطب الأول، الفصد، نقب الجمجمة، رسومات لمسالك وحشية فنت منذ أزل من المراس الطبي …

لا علم لها لما كانت تتذكر كتب الزوج القديمة هاته الساعة. كانت متعبة تعبًا شديدًا، ذهنها مشوش.

إذ أنها كانت قرابة الثالثة فجرًا. ينبغي أن تنام!

ما رجعت إلى السرير لترقد جنب الزوج الشاخر بل انسلت في سكات من الحجرة وشقت طريقها إلى حجرة ضيوف، إلى سرير أصغر حيث قد تنام لا يزعزع نومها، في حجرة كانت غير مألوفة عندها بالمثل، إنما غير مفزعة أو مزعجة، حجرة فيها قد تكون لسعدها وحدها.

هاته الحجرة والتي حجمها نصف حجم الحجرة الرئيسية قد كانت لابنة الزوج لما الابنة قد سكنت البيت؛ منذ سنين انفرطت.

طالبة النوم -متقطعًا- قطعت الزوجة جدولًا جاريًا على حجارة مداسة كانت متقلقلة تحت قدميها؛ تحتها، في الماء، أسراب من مخلوقات صغيرات غامقات كالبزاق تحينت قدميها الحافيتين أن تزلقا.

قبل البُلجة تصحو في أوانها لترجع في سُكات إلى الزوج، لتنزلق في السرير جنبه إذ يرقد نائمًا، معتملًا في صدرها انشراح بالغ أن قد رجعت من غير أن يفطن الزوج أنه كانت قد مضت.

إذ أن الزوجة عرفت أن الزوج لسيعز عليه إن أدرك أنها قد زحفت طالعة خشيانته، نفورًا منه.

مراوغة ترقد الزوجة دانية قبالة ظهر الزوج؛ كما قد يجثم الواحد قبالة جدار وِقاءٍ.

وثم كان الصباح. ضياء الشمس بين شرائح الستارة المعدنية كضمادات شاش حامية.

لاحت عجاب عند الزوجة أن قد غفت في يسر في السرير عالي القوائم، جنب الزوج. قد فعلت!

وأريح نوم، وأشده استردادًا في معاشها.

تصحو الآن وحيدة في السرير، تسمع الزوج يدندن لنفسه تحت المرشة، صوت المرشة غير مزعج بل يسكن النفس. مراعاة للزوجة قد غلّق الزوج باب الحمام.

لا محالة أحبت الزوجة هذا الزوج. حبًا راسخًا، لا مساءلة فيه.

لستبدل الملاءات، تفتح نافذة، وتهوي الحجرة المعطنة رائحتها، السرير الزريبة. لكن في غير عجالة. عقب أن قد طلع الزوج لنهاره.

قبل تلك على السطيحة الخلفية على العادة تأتي الزوجة بالتايمز له ما أن تُوصل. “شكرًا يا حبيبة!” قال الزوج، باسمًا.

كما لو أنه ما قد وقعت أي وقعة غريبة شاذة ليلًا لتقلب القلوب.

كما لو أن الزوج ما قد أراد أن يقتل الزوجة، الزوجة فزعت لروحها.

إذ أن لزوج أن ينسى في يسر، الزوجة كانت عازمة على أن تنسى أيضًا.

وإن كان ذاك المساء ساعة العشاء سمعت الزوجة نفسها تقول للزوج كأنما نزوة: “يظهر أنك ترى أحلام مستكرهات مؤخرًا”. ناوية أن تكون شفيقة لا مُتهِمة البتة.

في حدة رد الزوج، عابسًا: “آفعل؟ لا أظنها”.

“ألا تذكر؟”

” “أذكر” ماذا؟”

“حلم مستكره راودك ليلة الأمس؟ كابوس؟”

“”حلم مستكره؟” أطفل أنا لتراودني “أحلام مستكرهة”؟”

بسم الزوج للزوجة في صبر كما لو أنه يسايره.

ردت الزوجة التبسم في فروغ من قصد، غير مهتدية إلى كيفية المواصلة. غير عارفة لم قد أتت على ذكر هذا الأمر لما (كانت متيقنة) قد عزمت ألا تفعل.

“أنا … كنتُ أتساءل لو … لو أن شيئًا…”

تناقصت كُليمات الزوجة في ضعف. أوه، لم قد أتت على ذكر الأمر!

الزوج كان يراقبها بنظرة ساخرة كأب قد يراقب طفلًا يتخبط وبشيء يخبط يسير تفاديه لو أن الطفل نظر أين كان يسير لا أكثر.

“إيه يا حبيبة؟ كنتِ تتساءلين عن؟”

“لو أن في خاطرك كان شيءٌ، لو … لعلك تريد الحديث عنه”.

” “الحديث عنه” معك؟”

“لم عساك لا تتحدث عنه معي؟ إني زوجتك” كانت الزوجة فزعة على حين غرة.

(أكانت زوجة هذا الرجل؟ كيف قد وقع ذاك؟)

انثالت الخواطر في ذهن الزوجة. ما قد أرادت إلا عطفًا على الزوج، طمأنته، لو أنه كان في ضيق من شيء، لو كانت خواطر مغمات تعرض لنومه؛ كانت في جنبه.

 مجربة ثانية، في صوت رقيق، عاطف ما كان في لوم البتة قال: “مؤخرًا ظهر أنه تراودك منامات مقلقلات. أيقظتك __”

“أيقظني أنتِ، على ما أذكر. البارحة”.

“كانت تراودك كوابيس”.

“كانت تراودك أنتِ كوابيس. توقظيننا اثنينا”.

صمتت الزوجة. أحست كما لو أن حشرات ضخام حاصرتها تطن حوالي رأسها، لكن ما كان إلا الزوج يتحدث في صبر، كما لو أنه يخاطب على التعيين طالبًا بطيئًا.

“تذكري يا حبيبية: المنامات سراب، وهم. زائلة. سخيفة. رأى أرسطو أن المنامات ما هي إلا آثار النهار انهالت في صورة جديد ما لها عظيم قدر. پاسكال رأى أن الحياة كانت “منام أدنى تقلبًا قليلًا”. فرويد رأى أن المنامات كانت “تلبية رغبة”؛ والتي لا تبين لنا البتة شيئًا لو أنكِ استجليتِ العبارة. غير أن الكل يوافق على أن المنامات واهية، وعليه لا يُعبأ بها. تسخفين نفسك إن رحت تجربين فك مستغلقها”.

أرادت الزوجة أن تعترض؛ ما كانت مناماتها التي عنها تحكي بل مناماته.

ما كان ما لا يُعبأ به في الكوابيس التي كانت تعتريك.

لكنها فهمت أن الزوج هاب الأمر، وعلى عجل أسقطته.

كلاعب لا يتعلم اللعبة إلا في مناوشة الملعب لستتعلم الزوجة فك أغلق ما استغلق من أطوار الزوج. لستتعلم الزوجة توقع كوابيس الزوجة قبل أن يرزح لها. لستتعلم الزوجة كيف تحمي نفسها.

ما لبثت أن اكتشفت أن الزوجة الأولى (الراحلة) ما لها سيرة ولا تاريخ.

لا معرفة عنها على الإنترنت. لا نعية. لما طبعت اسم الزوجة السابقة طلعت رسالة فظة على شاشة الكمبيوتر بخط أزرق:

هذا الموقع أُوقف لانتهاك شروط الخدمة أو لسياسيات البرنامج. عرض هذا المحتوى محظور.

أرادت الزوجة أن تعترض. الاسم الذي طبعته ما كان موقعًا بل إنسان؛ امرأة!

إنما عند من عسى الزوجة تعترض؟ كم محرك بحث جربت ولا فرق، كلما طبعت اسم الزوجة السابقة ظهرت الرسالة نفسها: أُوقف.

لكن أنى كانت معقولة أن ما لزوجة الزوج السابقة أي سيرة أو تاريخ؟

لما الزوجة الجديدة سألت عن الزوجة السابقة لقيت وجوهًا خلاء خلو مناديل.

ألڤيرا من أتت كل جمعة لتنظف البيت؛ على ما قد فعلت الخمس والعشرين سنة الفارطة، ضحكت في اضطراب لما الزوجة سألتها عن الزوجة السابقة (“ألقيتيها بعد الطلاق؟ أتعرفين أي علة كانت فيها، ما أتى بموتها؟ كم طال الأمد بعد الطلاق حتى ماتت؟”) متقهقرة، جارة المكنسة مع قولتها: “آسفة، لا أفهم!”(بالإسبانية في الأصل)

(الذي ما هو بحق كان؛ إذ الزوجة قد تسمعت ألڤيرا تحادث بالإنجليزية الزوج. مع الزوجة لا غير تحدثت بما يشبه نصف إنجليزية، نصف إسبانية؛ كطفل ما أراد أن يكون له طرف في حديث قد يكون).

في متجر البقالة لقيت بدون وعد ولا قصد صديقة زوجها ألكسندرا، من لاحت بادئًا ودودة ودًا كافيًا لكنها انقلبت منقبضة المحيا ومرواغة لما – تعريضًا وأشد ما يكون من تعريض- عرضت الزوجة بزوجة الزوج السابقة. “آسفة، أنا في عجلة. ساعة ثانية ربما!”؛ دافعة على عجالة عربة تسوقها لتمضي إذ أتبعتها الزوجة نظرها، مبهوتة من فظاظة المرأة.

مرة واحدة لا غير لقيت الزوجة أبناء الزوج الكبار؛ من كانوا (في واقع الحال) ربائبها؛ وأي إرباك وأي بليلة أن يكون لك ربائب كبار من ما عرفتهم إلا في الندرة. حتى مع ابنة الزوج البالغة من العمر أربعين سنة من الزوجة وبينها أحست ألفة غير مؤكدة ترددت في السؤال عن الزوجة (السابقة)؛ من كانت أم الابنة، متهيبة شدهة الابنة (الربيبة)، عينيها الباردتين. ألا تستحين؟ من أنتِ؟ انصرفي، لن نحبكِ أبدًا.

ما كانت الزوجة لتجازف بها. ما كانت لتجازف بأن تخبر الابنة الزوج، وأي انزعاج لسيكون فيه الزوج، أو أردى.

لم تسألين ابنتي أسئلة من هذا القبيل؟ من أنتِ لتسألي مثل هذه الأسئلة؟

في الأسابيع الأول من علاقتهما قد أبان الزوج للزوجة أن الماضي -عنده- ما كان محلًا سارًا، ولا كان محلًا “خصبًا” أو “ولادًا”؛ وتلك كانت علة انكبابه بنفسه على عمله وتحقيقه لنفسه “نزر نجاح” لكنه كان بالمثل علة استحبابه العيش في الزمن المضارع.

“والذي هو علة حبي ياك يا حبيبة. أنتِ المستقبل عندي. زواج جديد هو استفتاحة جديدة تستلزم تقويمًا جديدًا”.

قد كانت الزوجة من هذا في طرب بالغ، في شكر بالغ. قد كانت بالحب فاترة.

ما لبثت بعدئذٍ أخذت الزوجة تنسى شقات عريضات من معاشها: أين هي ووزجها (الأول) قد سكنا عينًا؛ في حي سكني في “مسطحات” المدينة الجامعية، كم قد مضى منذ قد توفي زوجها (الأول)، وكم مذ قد تعارفا، أين كان تحديدًا أثاث بيتها السابق، الذي قد اُضطرت لوضعه في مخزن لما انتقلت إلى منزل الزوج (الجديد). نصف دزينة من الصناديق كدست فيها أعز كتب الزوجة قد خُزنت في سرب منزل الزوج (الجديد)، غير أنها لما قد فتشت عن الصناديق ما استطاعت العثور عليها، وسط فوضى من صحاحير أشرطة لاصقة، أثاث وأجهزة منزل مهجورة، تلفازات قديمة، ميكروفات.

تتجول في سرب بيت غير مألوف، عاجزة بضع دقائق محمومات عن الاهتداء إلى الدرج المفضي إلى فوق قد راح يعسر على الزوجة التنفس.

زواج جديد هو استفتاحة جديدة. تقويم جديد.

ما هذا؟ نخز غريب في أنف الزوجة ووجنتيها، نفس الإحساس في جلد إبطيها الرقيق، في ثديها، معدتها، دواخل فخذيها. حكة، لذع، ليس في غير مسرة جملة. تحاول في ضعف طرد الإحساس عنها، تحاول لمس أنفها، حيث هو على أشده، إلا أنها لا تقدر لأن ذراعيها مشلولة.

النجدة! ساعدوني!

تبكي، تعول؛ إنما في صمت. فمها يتحرك في غرابة وتشوه، ينفرج واسعًا، حرف O منفغر، فكاها يصطكان، يتشنجان. تحاول تحريك ذراعيها، يديها: خدر رهيب انتشر في أطرافها، أحالها عاطلة. في يأس تدبر قلب رأسها إلى صوب، ثم إلى الصوب الثاني: تقلب رأسها من جنبة إلى جنبة لتزيح عن وجهها شيئًا، عن أنفها، الذي صار يقرص أشد؛ موجعًا.

صاحية بغتة، من نومٍ غافٍ. يروح ذهنه المكدود يقعقع كآلة منفلتة.

“ساعدوني! رجاءً!”

ثم ما هو على أنفه ووجنتيها، عشش مستفحلًا في إبطيها.

بكل ما أُوتيت من قوة تتدبر الزوجة خطو متخبطًا من السرير وإلى الحمام، تتلهوج لإشعال النور، ترى ويا رعبها في المرآة فوق المغسلة ما هو عالق بأنفها؛ لزج – غامق، في بدانة، مطاطي، حي: أهو علقة؟

نصف دزينة من العلقات على وجهها، على الجانب التحتاني من فكها، حنجرتها …

تصرخ، ممزقة بأظافرها العلقة اللازقة بأنفها حتى تنزعها عنها، منتفخة بدمها. يهوي الشيء دائخًا ومتلويًا على الأرضية. أنفها أحمر حيث أسنان العلقة الضئيلة انغرست في بشرتها، وجنتاها مبقعة بقطرات دم. محمومة بالرعب وبالجحود، تخمش إبطيها، وثدييها. علقات زيادة تسقط على الأرضية، حيث يسيل منها دم؛ دمها.

ما رأت الزوجة قط علقة. ليس علقة حية. صور علقات ليس إلا. في كتب تاريخ الطب، في مكتب زوجها. غير أنها تتعرف هذا البزاق ماص الدماء. مبغوتة، مفرطة في تنفسها، مبهور نفسها. مرعوبة من أن يغشى عليها. انقلبت عظامها سائلة، تخر على الأرضية، حيث دزينات من العلقات تتثنى، تتحين الانقضاض عليها كرة ثانية.

في تلك اللحظة يسطع النور في الحجرة.

شبه مغشي بصرها إذ ينادي الزوج باسمها. يهز كتفيها. يحادثها في مسيس: “استيقظي يا حبية! استيقظي!” وهي خالصة؛ هي صاحية. لا في الحمام بل على السرير. على السرير عالي القوائم حيث كانت (جليًا) تنام. منقذها الزوج من كابوس رهيب.

الزوج وجهه متغضن في قلق يسأل الزوجة عما كانت ترى في منامها. ما الذي أفزعها فزعًا بالغًا؟ لكن الزوجة عن الكلام عاجزة؛ لما تزل في قبض الكابوس، حنجرتها مسدودة.

لا نية في تخبير الزوج بشأن العلقات، لا نية في لفظ الكلمة القبيحة علنًا: علقة.

على التدريج، بين ذراعي الزوج غفت الزوجة المنهوكة.

لا تتخلي عني! ما لك من أحد سواكِ.

تتحدث الزوجة السابقة قي وهن واهن حتى أن الزوجة الجديدة لا تكاد تسمع.

خالية بالمنزل في السرب الأغبش في نوره، مفتشة عن كتبها العزيزة المفقودة لكن أيضًا عن (واردة؟ محتملة؟) محل مواراة الزوجة السابقة.

ساعات من الجولان في السرب. فيما الزوج غائب.

الكثير من صناديق الأشرطة اللاصقة! الكثير من الحقاب المغلقة، مكدسة في ركن!

كان على الزوجة الجديدة التسليم بأنه لو كان رفات الزوجة السابقة مخبأ في بقعة ما من هذا المرقد الفسيح التحت أرضي فإنها هي الزوجة الجديدة غير وارد أبدًا أن تعينها: الزوج وارى آثاره في حيلة واسعة وحذق.

نَفْس الزوج نهارًا هي خير ذريعة لنفس الزوج ليلًا. من خلا الزوجة ليحزر؟

حزرت الزوجة الجديدة بالمثل أن الزوج لابد خدر الزوجة السابقة، ومن ثم إذ كبس وسادة ريش الإوز على وجه المرأة كانت في صدمة بالغ وضعف بالغ لتخلص نفسها.

في ضعف بالغ لتخلص نفسها، ناهيك عن غلبة زوجٍ أشد بأسًا وقوة.

لا تغلطي غلطي. لا تثقي بالحب.

اقصدي خزانة الأدوية حيث حبوب تاريخها سنوات ماضيات. انتقي أشد المنومات. اطحني هاته حتى تصير دُقاقًا.

اخلطي هذا الدُقاق الأبيض بطعامه. طبق كثير بهاره يوصى به.

انتظري بعدها حتى يغفو وينام. اصبري. لا تتعجلي قبل أن تجرؤي على وضع مخدة ريش الإوز على وجهه وتكبيسها بكل ما أوتيت من قوة.

وإذ كبست بكل ما أوتيت من قوة لا تليني ولا تتراخي. لا ترحمي! أو سينشط، وسيقتلـكِ.

صيري العدو عاجزًا؛ إذ أن الدفاع عن النفس هو قانون الطبيعة الأول.

لكن الليالي التلو ليالٍ من المنامات خلو. على قد ما يسع الزوجة الاستحضار.

ثم نائمة في احتراس ذات ليلة ترى (جلية بعينين مزررة) الزوج يقارب السرير الذي عليه هي -الزوجة- نائمة.

أواخر الليل. ليلة ما فيها قمر. مع ذاك ترى الزوجة كيف يقارب الزوج جنبتها من السرير خلسة، في صبر وخداع؛ كيف يبتسم لها من علٍ، الزوجة (المخدرة)، كيف يتبسم في توقع وتحين ما سيفعل بها، ابتسامة ضارية ما رأت الزوجة مثلها قبلًا قط، ولما الزوج يبت أن الزوجة (المخدرة) لن تستفيق يطلع من حاوية أولى المخلوقات اللزجة السوداء؛ علقة تتلوى طولها نحو ثلاث بوصات، وفي رفق يضعها على أنف الزوجة.

في حالتها المخدورة، فاقدة الحس لا تقدر الزوجة على الدفاع عن نفسها من الزوج إذ يحط محاذرًا علقًا في إبطيها، بين ثدييها، على بطنها، حيث يرتعش جلدها من لمسة العلقة، وبين الشعرات المجعدات في المفرق بين ساقيها. علقة منفردة، الأخيرة في الحاوية يضعها الزوج في حنية ركبة الزوجة اليمين، حيث اللحم طري وريان.

بضع عشرة علقة حركتها كلها شهوتها. تنخز جلد الزوجة وتحقن مميعًا بدمها.

في صمت موجوع تصيح الزوجة: لا! ساعدوني! ساعدوني رجاءً!

” يا حبيبة استيقظي! يراودك منام مستكره”.

أصابع تقبض على كتفي الزوجة في شدة، تهزها هزًا خشنًا. يرف جفناها فينفتحان.

في الظلمة التي ما هي بظلمة مطبقة مذهولة برؤيتها زولًا ينحني عليها، في جنبتها من السرير. يخبرها -كما قد يخبر الواحد طفلًا مفزوعًا- بأنها قد راودها منام مستكره لكنها الآن صاحية؛ آمنة.

أين هي؟ على سرير؟ لكن سرير من؟

عارية تحت قميص نوم. قميص نوم قطني رقيق؛ منقوعٍ بعرق بلغ حتى فخذيها.

مسعورة تتلمس بدنها: أنف، خدين، فك، ثديين، بطن. الجلد الناعم لا غير.

على هذا السرير في هذه الحجرة التي لا تميزها. ثم تستحضر: هي متزوجة (ثانية).

يتطاول أحدهما لمصباح جنب السرير ويشعله. كلٌ يبصر وجه الثاني مطوقًا بهالة على حين غفلة في العتمة.

الحمام المسروق – مارجريت دوراس (قصة قصيرة)

*پول غوغن


وصلت العجوز بوسك على الدوام في عجالة؛ كما لو أنه ما كان عندها من الوقت سعة.

من بيغيه وسعك أن ترى رأسها يطلع من على مبعدة، فوق وشيعة أشجار زعرور فصلت أرضنا عن التي لأبنائها. قطع درب ضيق هذه الوشيعة، وفي الفُرجة كانت تلة علتها وهبطتها في سرعة حركة شابة وخِفتها. ثم واصلت حذاء صف من نباتات الأرضي شوكي، رأسها محني، على ذاك الخطو المفاجئ دأبًا. كان الحال كما لو أنها لا تقدر على الإبطاء دون سقطة.

جسدها كان محنيًا عند الخصر، مرد ذاك ظهائر الشتاء الطوال التي قضتها محنية على نارها، وذراعاها النحيلتان تراوحتا إقبالًا وإدبارًا كرقاصي ساعة؛ كأنهما كانتا مفرطتا الطول الساعة، ولو أنهما قد تداعتا بالانكماش الذي طال البقية من بدنها نفسه. العجوز بوسك الفقيرة. قد صارت ما أصغرها في ختام حياتها؛ حتى أنها كانت لا تكاد تفوق نبتة أرضي شوكي طولًا.

كل مرة رأيناها قلنا: “انظروا ها هي العجوز بوسك”.

وكل مرة كنا في عجب؛ كما لو أن الوقعة كانت عجبًا لاطرادها البالغ.

قبل أن وصلت كانت لتصيح بكلمة ودودة بما قد بقي لها من صوت، والذي كان عاليًا ومزعجًا. وكنا لنرد بأصدح ما عندنا من صوت؛ كما لو أنها كانت صماء.

ما قطعنا قط العمل لنحادثها أو نصغي لها؛ ما كان إلا أنها تأتينا وتأخذ في عادية تامة بمعاونتنا في أيما كنا نصنع، وكل هذا فيما تصرف الوقت بالحديث، تخبر قصة.

غير أنها بعض الأحايين كانت لتنتحي بي جانبًا وتتمتم لي ما لم تجرؤ على لفظه جهارًا: “احكي لي متى تظنين أنكم راحلون؟”

لأنها استحبتنا حبًا جمًا عاشت في خوف من أننا قد نغادر المنطقة قبل موتها. قد رجعنا من بقعة قصية، بعيدة أيما بعد حتى أنها ما عرفت على التعيين أين، إلا أنها عرفت أن ريح دافئة هبت الساعة من خلال صنوبرات بيغيه، مريحة عظامها المسنة ومانحتها في سنها المتقدم -الذي كان جاوز الخامسة والسبعين ومضى- كفايتها من الوهم والكيد، وكمثلها فرصتها لتمضي إلى ما وراء القرية وما لها سواها. كان صحب شبابها كلهم اليوم مرضى أو عاجزون على قدرها أو أدنى ومسرورون دون صحبتها. وجب القول إن العجوز بوسك على قدر ما كانت من الطعن في السن ما قد صارت ورعة مع تقادمها في السن؛ حال غير مألوفة في الأوضاع الجاريات في هذا الشطر من البلد. لا تراها إلا في قداس منتصف الليل؛ لأنها استحبت الليل، وكمثله الاحتفالات، وعلى ما قد ما استحببتها إلا أنك لا تقدر ألا يقع في نفسك طفيف إنكار. كانت أول من تجرأ في المنطقة كلها على مداناة سبيلنا؛ على اتصال بأناس كمثلنا؛ من قد رجعوا إلى بيغيه عقب سنين طوال من الهجران.

على جهلها المهول كان ذهنها لا يزال وقادًا، ومنطويًا على صورة نقية من الفضول. كان في نفوس الناس قليل خشية منها؛ كما يخشى الواحد أولي البصيرة الجلية ومن يستبقون كل شيء، كما يخشى الواحد الحياة، بما فيها من إلهام وإيحاء، بما فيها من شعر لا يُسبر غوره. وهي علة أن اختارت جماعة نعتها بثرثرة، فيما لم تكن عن الحق إلا حالمة. قد كان في نفس أمي لها احترام فاق أيًا سواها في المحلة.

لأجلنا نحن الأطفال أتت مع المساء، الذي حملنا راجعين إلى البيت، إلا أنها كانت بالمثل العجوز التي أقفلنا أبوابنا دونها، حامين أنفسنا من ليل كأنها كانت تسحره. ما كان يزال فيها متقدًا أيما اتقاد سوى عينيها، في وجه شققته التجاعيد، كل واحدة معها خدد غائر أسود. وإن كان فذاك الوجه غير المألوف هو سمة الطعن في السن الوحيدة التي كانت فيها، وبدا كأنها لن تموت أبدًا؛ قد تكيفت مع السنين على خير ما يرام. لكن وقعة بغيضة نزلت بها؛ كانت من القصص التي لسرها هي نفسها لا محالة تخبيرها؛ لو أنها ما قد أن أبلغتها آخرها.

كانت عند هاته النافورة التي بها روت كنتها چَن بوسك ظمأها.

ما قد حظت چَن – على قولها- بطفولة حقة. فطفولتها قد صرفت في انتظار مسعور طرفًا من سلطانٍ لها؛ زواجها ما قد رد عليها هاته السنين المفقودات ولا بهجتها. مع ذاك حكمت في بيتها، ولأنها قد كانت عاجزة أمدًا طويلًا عن ممارسة سلطتها على أهلها مارستها الساعة في غير حصافة ولا رجاحة على أهل زوجها. ما كان منهم إلا أربع- العجوز، چَن، زوجها لوي، وابنهما چَان- والنصر كان عقيمًا قليلًا؛ للحق. لكن أي شأن كان لذاك! حينًا طويلًا في عيون القرية كانت الساعة تُرى سيدة المنزل.

حري بك كان أن تراها تلعب بالعجوز بوسك كما لو أنها كانت طفلًا! كانت العجوز أحذق كثيرًا من غضبة تعتريها من الأمر؛ لما عرفت أن ابنها ما كان أبدًا ليجرؤ على محاباة زوجته عليها، ولا حفيدها؛ كان ابن أربع عشر وفي ذهنه أمور ثانيات. وعليه قبلت في ابتهاج ما كان لها في المنزل. لكن كان طيب خاطرها عينًا -والذي ما كان لشيء أن يكبته- ما آذى عنجهية كنتها؛ كان الحال كما لو أن العجوز ولا سواها من له حَمَل چَن على الشك في ثباتها.

سنة فسنة صارت نبرة چَن مع العجوز أحد. نظرت فيها بعينين ضاريتين، وجهها آكله من عساه يعرف أي يأس.

لو أنك قد رأيت تلك العجوز الصغير، محبوبة أي حب، يسرة مداناتها أي يسر ما كان ليخطر ببالك أبدًا أن أحد يكرهها على ذاك النحو!

لكنك إن سألت كنتها عن حالها كانت لتقول في تنهيدة زائفة: “لا محالة إنها تتطعن في السن. أما تنبهت إلى أنها تصير قذرة؟ هي من كانت فيما مضى وضاءة على ما سمعت؟” أو “إذ كبر چّان سنعطيه حجرة النوم العلوية”. كانت لتشير إلى حجرة العجوز بوسك التي ما وطأتها قط.

وإن كان هذا كله في عيون الآخرين في القرية ظلت العجوز بوسك سيدة البيت. ولو أنها قد حولت كل ما تملك إلى أبنائها، وكانت في رضى تام أن تُطعم ويسمح لها المكوث في حُجريتها.

ذات نهار مارسي إذ أن قد أتمت عملها البيتي انطلقت چَن بوسك إلى مُلكية پِلجغان على الهضبة العالية فوق القرية.

عادة لا تسلك هذا المسار خلا في الآحاد؛ في سبيلها إلى القداس. ومن ثم كنا متفاجئين إذ بصرناها في يوم من بحر الأسبوع؛ وفوقها كانت تسير مسرعة ولا تكاد تحيي أولئك المارة بهم؛ خشية أن تؤخر على الدرب. شقت سبيلها محاذرة وعلى مهل عبر أشجار الفِصْفِصَة وسلكت الطريق الجاري في القرية. ثم راحت تتسلق التلة، سالكة الدرب الذي تلوى بين الكروم. بلغت حد الملكية الذي غلب على المنظر في نحو الساعة الحادية عشرة. وجهها كان أحمرًا من الريح، وكانت تلهث قليلًا؛ أن قد عجلت في الصعدة الطويلة.

“إذن أي ريح طيبة حملتكِ إلى صوبنا مدام بوسك؟”

لما أخذ الجميع يشيرون إلى حماتها بـ “العجوز بوسك ” قد صارت هاته المدام بوسك؛ لأنها كانت موقرة في المنطقة، لكن لأنها بالمثل أتت من قرية ثانية.

ما أجابت السؤال من فورها. إن -لما شرعت في هذه الحاجة باشرت- قد كانت الكلمات والجمل تدور في رأسها وتدوم، فقد انتظمن في الطريق. والساعة أتقنتها -حكايتها- على نحو بالثناء جدير؛ أن قد هيأتها في الطريق وأعدتها. أرادت أن تنتفع بها خير انتفاع!

إلى أين كانت ماضية؟ كانت تحمل بذرتها إلى أقصى وأبعد ما أمكن؛ لتزرعها في أخصب بقعة: على هضبة پِلجغان العالية، التي منها لسيحمل طرف الثرثرة؛ كالريح إلى ثلاث قرى مجاورات أقله. آه! كان لها مرمى سديد المدام بوسك؛ عرفت جيرانها!

“تعرفون أقاربي من الجزائر …”

عجلها وتعبها قد خلفاها مبهورة حتى أن كان عليها أن تعيد الكرة.

“تعرفون أقاربي من الجزائر، اللذين المفترض وصولهم الليلة؟ تصوروا هذا: البارحة قبل المضي إلى السرير أعددتُ زوجًا من خيار حمامي شكلًا وأسمنها؛ الخيار لهم لا غير! إذن طهوت الطيور، وضعتها في حرجة المؤن، ومضيتُ إلى السرير. في قلب الليل أسمع ضجة تحت. ألكز لوي لكزة، وننزل سوية. حتى أني خبرته أن يأتي ببارودته؛ لا تعرفون أبدًا -على ما تعرفون- مع جواز عمال السكة هؤلاء كلهم هنا ليلًا…”

كان الاثنان من آل پِلجغان مرهفين سمعيهما. اتقد بؤبؤهما كالفحم.

“وماذا أرى؟” واصلت المرأة بوسك. “خلتُ أني كنتُ أحلم! لوي وأنا انعقدت ألسنتنا، شللنا. العجوز! كانت فزعة! قاعدة على مقعدتها كانت تلتهم حمامي، بيديها الاثنتين، هكذا … كدتُ لا أتبينها؛ لاحت في اختلاف بالغ. إثر أمد طويل التفتت. جمدت لما رأتنا؛ حسبت هنيهة أنها قد تكون في صدمة. لكنها بعدئذٍ استردت رباطة جأشها وجرت فارة من الحجرة؛ جرت! إنها خفيفة الحركة، تلك العجوز، على ما تعرفان. ارتقت الدرج أربعًا أربعًا وحبست نفسها في حجرتها”.

“يا إلهي إله السماوات!” قالت امرأة پِلجغان. “لكنها كانت حاضرة الذهن أمدًا طويلًا؛ من كان ليتخيل وقعة من قبيلها!”

لكنه هو -المسيو پِلجغان – تحدث في جدية على ما استلزم الحال. “إذن انتهى أمرها، العجوز بوسك. فقدت عقلها، هكذا وحسب”.

“ما كان الحال أنا حرمناها من أي شيء” قالت المفسدة. “لكن ذات حينٍ أو ثانٍ سينال منك العمر. من المسنين من لا ينفك يحكي النهار كله، آخرون ينقلبون بخلاء. هاته جنونها سيكون سرقة الطعام وحشو نفسها حتى وما هي جوعى. طيب؛ ليس حالًا رداه بالغ؛ كان ليكون أردى في مسنا”.

لزمت العجوز بوسك حجرتها أيامًا. ولأولئك الذي فوجئوا أن ما رأوها في الأنحاء چَن بوسك قالت ضاحكة: “أوه! مع زوج الحمام ذاك أكلت ما يكفيها حاجتها يومين، العجوز المسكينة … ليس أني أستكثر عليها الطعام”.

قالت هاته مجاهرة ما يكفي لتبلغ كلماتها صعودًا حتى حجرة المسنة في العلية…

كانت العجوز بوسك في حرج.

ما قد اعتراها؟ كان حقًا أن الطعن في السن طالها آخرًا؛ على ما قالت كنتها. تشهي الحمام الشطط الذي قد اعتراها بغتة، والنحو الذي عليه التهمته؛ كحيوان؛ كانت منكوبة لا شك، والكل عرفها، الكل في بيغيه، القرية، الدنيا جمعاء عرفتها …

ما أشهاه لو أن تلك العجوز الصغير قد ماتت عندئذٍ. أي خلاص ألا تُضطر إلى التفكير بعد الآن. لكن يا ويحها …

يومان وليلتان راقبت السماء في حمق، السحاب الذي مر قبالتها، جاريًا على النحو الذي كان أطفال القرية ليجرونه في إثرها لا ريب من الآن فصاعدًا. راقبت من غير أن تبصره قمر أوسط مارس العظيم.

قاعدة أوسط حجرتها، محنيٌ ظهرها أحنى من قبل ما جرؤت حتى على تحريك رأسها؛ خشيانة انطلاق الضحك الذي أعقب كل حركاتها وأزعج مسامعها …

على قول كنتها جربت أن تسرق مرة ثانية، إلا أن كل حاجة كان مقفلًا عليها تلك الليلة؛ تخيل! ثم من الغد منهوكة العجوز سلمت نفسها للنزول؛ استغلت حينًا كان فيه البيت خلوًا، في رائعة الظهر، كمثل حيوان أرغمه جوعه على طلوع من جحره.

أخذت مقعدها ضعفًا عند النار ولزمت هناك. ولأنها مذ ذاك اليوم ما تحدثت ما كلمها أحد أيضًا؛ ابنها ما كلف نفسه عناء تمنيه مساءً طيبًا لها لما رجع من الحقول، وما لبث حفيدها أن انقطع عن تقبيلها لما رجع من المدرسة؛ لأنها ما عادت نظيفة.

أمي -في كياسة- خلت العجوز تموت من غير تجريب رؤيتها ثانية، لكنها كانت الوحيدة في فعلتها هذه. لا أحد عداها في القرية وسعه مقاومة مبهجة إلقاء أقله نظرة ثانية علليها. لسعدها كان كل ما استطاعت إلى رؤيته سبيلًا هو نارها …

قد صارت شائبة كثيرًا، كثيرًا كصحبها المسنين؛ كانت مغطاة بالرماد؛ كان رمادٌ في طيات فستانها، في شعرها، في تجاعيد بشرتها الطاعنة في السن.

متى ما أتى أحدٌ بيت بوسك وبلغ حد المطبخ -الذي كان كبيرًا ومشرقًا -كانت كنتها على الدوام تعتذر عن الركن حيث قعدت العجوز، الذي ما استطاعت قط تدبر تنظيفه.

“ولو أن لك رؤية حجرتها” تنهدت. “زريبة”.

قد انتظرت چَن حتى الخريف لتنظف المكان؛ أخذت العجوز ثماني شهور لتموت، ثماني شهور من ربيع بديع وصيف؛ كنت لتكاد تصدق أنها كانت تفعلها عن عمد. لكن في نهاية المطاف ذاك الانتظار الطويل ما كان منه إلا زيادة البهجة التي خبرتها چَن بوسك لما استطاعت آخرًا وضع كل أطمار حماتها في كداسة وسط الباحة وأشعلت بها النار؛ نار عظيمة نفشت دخانها في القرية كلها والتي كانت تذكى من حين لحين بمسعار طويل.

الإنجيل – مارجريت دوراس (قصة قصيرة)

(طبيعة صامتة وإنجيل، ڤنسنت ڤان غوخ)

كان له عشرون سنة، هي ثماني عشر. دنا منها ذات مساء في الكَفيه دي غوليه سان ميشيل. خبرها أنه قد أتى توًا من درسه في علم الاجتماع. أما هي فتحينت جملة أيام لتخبره أنها كانت فتاة مبيعات في محل أحذية. دأبا على عادة التلاقي في حجرة الغوليه الخلفية؛ غالبًا نحو الساعة السادسة إلا عشر، بعد أن تنصرف من عملها في المحل. كانت مسرورة بالعثور عليه هناك كل ليلة: كان صحبة، كان مؤدبًا وطيبًا. سرها الوقوع على أحد لها معه تمضية ساعات ما قبل العشاء قبل الرجعة إلى حجرتها. ما أكثرت الكلام؛ كان هو من خبرها. خبرها عن الإسلام والإنجيل. هذا ما فاجأها على التعيين، ولو أنه رجع إلى الأمر المرة تلو المرة. ما فاجأها، ما فاجأها أي شيء: كانت تلك الشاكلة التي هي عليها ليس إلا؛ ما فاجأها عن حق أي شيء.

الليلة الأولى حدثها عن الإسلام. من الغد نام معها وحدثها عن الإنجيل. سألها إن كانت قد قرأته. خبرته أنها ما قد. بعد الغد جاءها بإنجيل معه قرأ سفر الجامعة لها في حجرة الغوليه الخلفية. قرأه جاهرًا، يداه على أذنيه، بصوت مشبوب، مراعيًا التناسب الشعائري. وقعت من هذا في حرج وتساءلت ما إذا كانت فيه مسحة جنون. بعد حين سألها ما قد كان رأيها فيه. ما قد ألقت السمع فيما كان يقرأ لأنها كانت في حرج منه. خبرته أنه بدا عندها معقولًا، أن لا بأس به. تبسم من ردها؛ أبان لها أنه كان نصًا من الأصول وتعلمه ضرورة.

قد رأى بردية ناش في المتحف البريطاني؛ خبرها عنها. قد قضى غير ساعة قبالة خزانة العرض الزجاجية، وقد رجع ثانية من الغد، وغير يوم بعده. ما كان لينسى أبدًا هاته اللحظات. ما بقي على بردية ناش عدا سطور معدودات من سفر الخروج. حدثها عن سفر الخروج. ” ولكنَّ بَني إِسرائيلَ نَمَوا وتَوالَدوا وكَثُروا وعَظُموا حتّى ا‏متَلأت أرضُ مِصْرَ مِنهُم… حتّى تخَوَّفَ المِصْريُّونَ مِنهُم…”(*) خبرها عن كل الأناجيل: الفولغاتا والسبعينية، وكمثلها عن الڤاتيكانية، السينيائية، العبرانية، الآرمانية، الإغريقية، والأناجيل اللاتينية.

ما أراد قط الحديث عنها، وما سألها قط أكانت مسرورة بالعمل في محل الأحذية، أو كيف كانت أتيتها پاريس، أو ما استحبت. مارسا الحب سوية. استحبت ممارسة الحب. كان واحدًا فيما استحبت. فيما كانا يمارسان الحب ما تحادثا. متى قضى راح يتحدث تارة ثانية على سينت چيروم الذي أفنى عمره يترجم الإنجيل.

كان نحيلًا، فيه طفيف حدب. شعره مموجٌ وأسود، وكانت له عينان بارعتا الجمال زرقاوان، تطابقهما رموش سوداء كثيفة. جلده كان شاحبًا، فمه معبر كثيرًا، شفتاه الشاحبتان لا تكادان تمسان أسنانه. أنف مدور كان له، وجنتان واضحتان. ما كان على التعيين نظيفًا؛ أطواق قمصانه كانت في غير الحال المأمول، ومثلها أظافره؛ التي كانت وردية ومستديرة وما أكبرها على يديه المستدقتين؛ جاعلة أصابعه كأنها مباسط. كان له صدر مجوف. قد أمضى يفاعته يقرأ النصوص المقدسة في الإسلام والمسيحية. تعلم العبرية، العربية، الإنجليزية، الألمانية. لا يزال كان يدرس العربية في مدرسة اللغات الشرقية؛ ولو أنه للحق قد أتقنها حق الإتقان -إذ كان لا يزال في سنته الثانية لما تعارفا ليس إلا- حتى وسعه قراءة القرآن بلغته الأصل.

بعض الأحايين صحبها إلى العشاء في الخارج، لكن إلى مطاعم رخيصة على الدوام. اعترف ذات ليلة أنه كان يبتاع -بالتقسيط- إنجيلًا عبرانيًا من القرن السادس عشر. كان أبوه غنيًا موسرًا لكنه ما أعطاه من المال إلا نزرًا. مع ذاك ما قد استطاع مقاومة ابتياع هذا الإنجيل؛ قد دفع ثلث ثمنه، وسيستتمه الشهر الآتي. حلم باللحظة التي فيها لسيمسك الإنجيل بين يديه.

حتى إثر أن قد عرفا بعضهما ثلاث أسابيع ما قد تكلما عن أي شيء سوى الإنجيل والإسلام. على الدوام حادثها عن الإله، وعن الاجتذاب الأزلي بأن مفهوم الإله محصورٌ على بني الإنسان. هي عن نفسها ما صدقت بالإله، ما اعتمل في نفسها أدنى قدر من الحاجة للتصديق بالإله. عرفت أنه كان من صدق بالإله، من اعتملت فيه الحاجة. ما صدقت أنها لستقضي ما بقي من عمرها في محل الأحذية؛ صدقت بأنها لستتزوج وتنجب. صدقت بأنها قد مُنحت فرصتها في الدنيا؛ تلك كانت السبيل التي عليها صدقت بالإله لا غير.

ولا صدق هو بالإله، إلا أن في ذلك ما كان سلوانه. كان غير عابئ بثروة أبيه؛ التي عظمت؛ قد حيزت من فلكنة الإطارات للسيارات. حكى أحيانًا عن بيته في نويي، وعن ملكية في هوسغوغ. عرفت أنهما ما كانا ليتزوجا أبدًا. ما ساءل حتى نفسه هذا السؤال.

ما قد عرفت رجلًا كمثله قط. تحدث عن محمد على نحو ما يتحدث الواحد عن أخٍ؛ خبرها عن حياة محمد، زواجه بأرملة تاجر، علاقته بماريا القبطية. عرف قصة كل واحدة من زيجات محمد الأربع عشر؛ محمد من قد اضطلع بجعل العرب موحدين. كانت إقدامة سامية؛ قد ذاد عنها محمد بسلاح في يده وبشجاعة فوقية. عندها بدت اِضطِلاعة غريبة، لكنها ما نطقت عنده بقولة. ولا خبرته أنها بعض الأحايين بلغ عندها السيل الزبى من معاونة الناس في قياس الأحذية سحابة النهار. لا؛ استبقت هاته الخواطر بينها وبين نفسها؛ ما خطر لها على أي حال أن لأي واحد بها ستكون عناية؛ وذاك عندها كأنه كان عاديًا. آخرًا اعتادت مناحيه وأساليبه، ومتى ما شاء تلاوة سور كاملات من القرآن بالعربية كانت تخليه يفعلها؛ حسبته كان مستلطفًا. أضجرها.

أتاها بزوج جوارب؛ كان رجلًا رقيق الحاشية. لكنها مذ قد راحا ينامان معًا ما قد لقيت بهجة في معاشها. ذات ليلة فهمت العلة. لستُ موائمة له؛ حدثت نفسها. كل ما فيها من أزر، كل ما فيها من ابتهاج يافع بالحياة كأنه ينقبض في حضوره وينكمش؛ ما كان لها بالأمر من حيلة. مع ذاك كانت مسرورة. فهي على نحو ما كانت مسعودة؛ حدثت نفسها بأنه تعلمت ما تعلمت لما كانت في صحبته. إلا أن هاته التي تعلمت ما أوردتها مسرة. كأنها قد عرفتها؛ ضئيلة كانت حاجتها لتعلمها. لكنها جربت أن ترضيه؛ مساءً قرأت الأناجيل؛ كما قد سألها أن تفعل. ما قاله المسيح لأمه أبكاها. أن قد صُلب في عز شبابه، أمام ناظري أمه، كان حتى أشد تقزيزًا للنفس. لكنها – ما كان خطأً منها- ما استطاعت أن تجاوز حدًا معينًا من العاطفة. ما رأيت أنه كان ربٌ؛ هذا الإنسان. رأت أنه رجلٌ قد كانت له عزمات نبيلة وبالغ نبلها؛ موته رد عليه إنسانيته، أي أنها ما كانت لتقدر على قراءة قصته من غير ورود أبيها على ذهنها، من قد مات السنة الفارطة، سحقته عربة صناعية، سنة واحدة قبل تقاعده. قد وقع به ظلم قد بدأ منذ زمن سحيق. ذاك الظلم ما قد انقطع عن وجه البسيطة قط؛ امتد في سلالات الإنسان.

الطبيب وزوجة الطبيب – إرنست همنغواي (قصة قصيرة)

(الجذع الأصفر، إدڤر مونك)

أتى دِك بولتن من المخيم الهندي ليحتطب لأبي نِك. أتى بابنه إدي، وهندي ثاني سُمي بيلي تيبشو معه. دخلوا من البوابة الخلفية طالعين من الأحراج، إدي يحمل منشار قطع متعارض طويل. تخبط على كتفه وأصدر صوتًا موسيقيًا إذ مشى. أما بيلي تيبشو فحمل خطافين مائلين كبار. فيما كانت تحت ذراع دِك ثلاث فؤوس.

التفت وأغلق البوابة. مضى الآخران يتقدمانه نزولًا إلى ضفة البحيرة حيث الجذوع كانت مدفونة في الرمل.

قد فُقدت الجذوع من حواجز الجذوع العائمة الكبرى التي قطرتها في البحيرة إلى الطاحونة الباخرة مَجك. قد انجرفت طالعة إلى الشط وإن ما فعل في شأنها أي فعل فعاجلًا أم آجلًا فسيجيء طاقم المَجك الشط في قارب تجديف، يرصد الجذوع، يثبت مسمارًا حديدًا عليه حلقة في طرف كل واحدة وثم يجرها إلى البحيرة ليصنع حاجزًا جديدًا. إلا أن الحطابين قد لا يأتونه أبدًا لأن جذوع معدودات لا تستحق ثمن طاقم كامل ليجمعها. إن ما جاءه أحد فستترك لتتشبع بالماء وتتعفن على الشط.

افترض أبو نِك على الدوام أن هذا ما سيكون، واستخدم الهنود ليهبطوا من المخيم ويقطعوها بمنشار القطع المتعارض ويفلقوها بإسفين ليعدوا أكداس حطب وشُطف للمصطلى المفتوح. سار دِك بولتن حوالي المكان جائزًا بالكوخ هابطًا إلى البحيرة. كانت أربع جذوع زان ضخام مدفونة أو تكاد في الرمل. عَلّق إدي المنشار من إحدى مسكاته في منفرج شجرة. حط دِك الفؤوس الثلاث على الرصيف الصغير. كان دِك نغلًا وجملة من المزارعين حوالي البحيرة صدقت أنه كان رجلًا أبيضًا عن حق. كان كسولًا كسلًا شديدًا إنما أحسن به من عامل متى شرع. طلّع قرص تبغ مضغوط من جيبه، قضم مضغة وحادث بلسان الأوجيبوي(1) إدي وبيلي تيبشو.

غرسوا حافة خطافيهما المائلين في واحدة من الجذوع وأرجحوه فوقها ليرخوا علوقه في الرمل. أرجحوا ثقلهما فوق مقابض الخطافين. تحرك الجذع في الرمل. التفت دِك بولتن نحو أبو نِك.

“طيب يا دال (2)” قال. “ذاك من الخشب كثيرٌ سرقت”.

“لا تقول تلك يا دِك” قال الطبيب. “خشب مجروف”.

قد خلل إدي وبيلي تيبشو الجذع مطلعينه من الرمل المبلول ودحرجوه صوب المياه.

“ضعاه فيها على طول” صاح دِك بولتن.

“ما علة فعلكم تلك؟” سأل الطبيب.

“غسيله. تنظيفه من الرمل لأجل المنشار. أريد أن أرى لمن هو” قال دِك.

كان الجذع مقذوفًا في البحيرة ليس إلا. مال إدي وبيلي تيبشو على خطافيهما يتعرقان تحت الشمس. ركع دِك عل الرمل ونظر في علامة مطرقة القشر في الخشب عند حرف الجذع.

“هو لوايت ومكنَلّي” قال، واقفًا ونافضًا ركبتي بنطاله.

كان الطبيب في ضيق بالغ.

“خيرًا إذن ألا تنشره يا دِك” قال في إيجاز.

“لا تكن نزقًا يا دال” قال دِك. “لا تكن نزقًا. لا أكترث ممن تسرق. ليس من شأني في شيء”.

“إن كنت تحسب الجذوع مسروقات خليها وشأنها وارجع بعدتك إلى المخيم” قال الطبيب. وجهه أحمرٌ كان.

“لا تخبص يا دال” قال دِك. بصق مُجاج التبغ على الجذع. انزلق، مترقرقًا إلى المياه. “تعرف أنها مسروقة كما أعرف. لا فرق عندي”.

“حسنًا. إن كنت تظن الجذوع مسروقات خذ حاجياتك واطلع”.

“إذن يا دال _”

“خذ حاجياتك واطلع”

“اسمع يا دال”

“لو خاطبتني بدال تارة ثانية سأدق أنيابك حتى تنزل في حنجرتك”.

“أوه، لا، لن تفعل يا دال”.

نظر دِك بولتن في الطبيب. دِك كان رجلًا جسيمًا. عرف أي رجل جسيم كان. استحب المقاتلات. كان فرحًا. اتكأ إدي وبيلي تيبشو على خطافيهما ونظرا في الطبيب. مضغ الطبيب اللحية على شفته السفلى ونظر في دِك بولتن. ثم أشاح ومضى صاعدًا التلة إلى الكوخ. وسعهم أن يروا من ظهره في أي غضب كان. شاهدوه جميع يصعد التلة ويدخل الكوخ.

قال دِك قولة بالأوجيبوية. ضحك إدي لكن بيلي تيبشو لاح في جدية بالغة. ما فهم الإنجليزية غير أنه عرق سحابة ما كان الشجار قائمًا. كان سمينًا وما له شاربٌ سوى شعرات معدودات كواحد من أبناء الصين. لقط الخطافين المائلين. دِك لقط الفؤوس وإدي أنزل المنشار من على الشجرة. انطلقوا ومشوا حذاء الكوخ وطلوعًا من البوابة الخلفية نحو الأحراج. دِك خلى البوابة مشرعة. بيلي تيبشو رجع وغلقها. مضوا في الأحراج.

في الكوخ أبصر الطبيب قاعدًا على سرير في حجرته كداسة من الدوريات الطبية على الأرضية جنب المكتب. كانت لما تزل في أغلفتها ما فُتحت. أزعجته.

“ألن ترجع إلى عملك يا عزيزي؟” سألت زوجة الطبيب من الحجرة حيث رقدت وستائر التعتيم مسدلة.

“لا!”

“أكان خطب؟”

“تشاجرتُ ودِك بولتن”.

“أوه” قالت الزوجة. “أرجو أنك ما فقدت زمام أعصابك يا هنري”.

“لا” قال الطبيب.

“تذكر: ومَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً”(3) قالت الزوجة. كانت من أتباع جماعة العلم المسيحي(4). كان إنجيلها، طبعتها من العلم والصحة وربعها (5) على طاولة جنب سريرها في الحجرة المعتمة.

ما أجاب زوجها. كان قاعدًا على سريره الآن، ينظف بندقية. دس المشط الممتلئ بالرصاصات الصفراء الثقيلة وأفرغها منه ثانية. كانت مبعثرة على السرير.

“هنري” نادت زوجته. ثم أمسكت هنيهة. “هنري!”

“نعم” قال الطبيب.

“ما قلتَ لبولتن أي قولة تغضبه، أفعلت؟”

“لا” قال الطبيب.

“ما كانت المشكلة فيه يا عزيزي؟”

“ليس ذي شأن”.

“خبرني يا هنري. أرجوك لا تحاول إخفاء أي شيء عني. ما كانت المشكلة فيه؟”

“طيب: دِك مدين لي بقدر كبير من المال لقاء معالجتي حرمته الهندية من ذات الرئة وأحسب أنه ابتغى شجارًا فلا يُضطر لسداده بالعمل”.

كانت زوجته صامتة. مسح الطبيب سلاحه محاذرًا بخرقة. دس الرصاصات مرجعها فوق نابض المشط. قعد والسلاح على ركبتيه. كان مولعًا به أيما ولع. ثم سمع صوت زوجته من الحجرة المعتمة.

“يا عزيزي لا أظن، لا أظن حقًا أن أي واحدٍ ليفعل كمثل تلك عن حق”.

“لا؟” قال الطبيب.

“لا. لا أصدق حقًا أن أحد ليفعل فعلة من قبيل هاته الفعلات عامدًا”.

وقف الطبيب ووضع البندقية في الركن وراء الخزانة.

“أستطلع يا عزيزي؟” قالت الزوجة.

“أظنني سأطلع في تمشية” قال الطبيب.

“لو لقيت نِك يا عزيزي ألا تخبره أن أمه تريد رؤيته؟” قالت الزوجة.

طلع الزوج إلى الرواق. انصفق الباب الشبك من وراءه. سمع زوجته تسترد نفسها لما انصفق الباب.

“أعتذر” قال، خارج نافذتها والعواتم مسدلة.

“لا بأس يا عزيزي” قالت.

مشى في الحر طالعًا من البوابة وحذاء الدرب إلى أحراج الشوكران. كان براد في الأحراج حتى في يوم قائظ. عثر على نِك قاعدًا وظهره مسنودًا إلى شجرة يقرأ.

“تريدك أمك أن تأتي وتراها” قال الطبيب.

“أريد أن آتي معك” قال نِك.

خفض أبوه نظره صوبه.

“حسنًا. تعال إذن” قال أبوه. “أعطني الكتاب سأضعه في جيبي”.

“أعرف أين السناجب السود يا بابا” قال نِك.

“حسنًا” قال أبوه. “فلنمضي إلى هناك”.

________

(1): (Ojibway): قبيلة من هنود أمريكا الشمالية لسانها ألغونكوي سكنت أشطارًا من كندا وأمريكا الشمالية.

(2): وردت في النص (Doc) وهي اختصار كلمة طبيب مع انطوائه على مسحة سخرية ومن ثم كانت دال الأقرب بالعربية.

(3): سفر الأمثال الإصحاح السادس عشر، الآية 32.

(4): Christian Scientist.

(5): (Science and Health): وعنوانه كاملًا: العلم والصحة والمفتاح إلى النصوص المقدسة لمَري بيكر إدّي قائدة الطائفة وهو مع الإنجيل رأس النصوص في الجماعة.

(Quarterly): منشور للدار التي أسستها مَري وفيه تبيان نصوص الإنجيل لكل أطياف طلاب الجماعة، مقسم ليكون كل درس قداس أحد في الكنيسة ويدس الأسبوع الذي يسبقه.

سنة الأرنب – آلس مَكدرمت (قصة قصيرة)

(مشكاة خضراء،رافيل كرشنشر)

سأتمهل دقيقة الآن لأرى إن استطعتُ استحضار تواريخي مضبوطة. پيتِر وأنا تزوجنا في يونيو سنة 1962. مطلع ديسمبر خبرني پيتِر أننا ماضون إلى سيغون. سرنا إلى الوست كوست في فبراير 1963، ووصلنا سيغون في إثر التيت(1).

أذكر أي خيبة قد كنتُ فيها تلك الصبيحة لما عثرتُ على أني ما كنتُ حاملًا بعد. شهرٌ ثاني قبل أن بدأتُ آمل. أسابيع معدودات آنئذ لما جرؤت على قول كلمة لپيتِر. موعدي الأول عند الطبيب كان في مايو، بعد دورتي الثانية الفائتة: طبيب في عيادة البحرية غالب التابعات الإناث عدنه. پيتِر قد أتى باسمه. كنتُ متطيرة كثيرًا لأسأل أي من النسوة اللاتي عرفت تزكيات. ليس بعد.

طمأنني الطبيب بأننا أصبنا نجاحًا. “مات الأرنب”(2) هي ما قلنا في تلك الأيام، ولو أني لا أحسب أن لأي أرانب كان ضلعٌ عن حق. كانت -والطبيب أشار لهاته- سنة الأرنب. فأل حسن، قال. وأذكر پيتِر سأل بعد حين: “كيف يكون أرنب ميت فألًا حسنًا؟” ضحكنا على تلك.

كان المفروض أن أمد تكليف پيتِر من تسع شهور إلى سنة، ومن ثم فاحتمالية أني سأكون في الوطن آن الولادة كانت راجحة، إلا أن دكتور البحرية (لا أذكر اسمه، لا محالة أني كتمته) قال بأنه قادر قدرة تامة على توليد طفلنا لو أن العزمات تبدلت. و-زاد- المربيات هنا كن رخيصات أيما رخص، لم الرجعة إلى الولايات حيث سيتعين عليك القيام بكل الرعاية والإرضاع بنفسك؟

وفكري فيها -زاد- سحابة معاشه سيكون في جعبته حكاية خلابة ليقصها عن المكان البداع حيث وُلد. كل خليلاته سيراجعن أطالسهن.

قد اعتمل في نفسي أنه قد قال هاته لنسوة ثانيات، أنها كانت واحدة في رسمه، محاولات متلطفة في معاملة طبيب مريضه معاملة ساحرة، غير أن هاته الكلمات أذنت لي للمرة الأولى ليشرح صدري، لآخذ في تخيل عمر طفلنا الطويل.

مطلع يونيو وكنتُ أتجهز لحفلة ثانية. حفل استقبال في السفارة الأمريكية، ثم عشاء وثلاث ثنائيات في ماي كانا: مطعم عائم على النهر. محل شياع للعوائل. ربما لأنه كان محلًا شياع للعوائل فجرته الفيت كونغ بعد سنوات معدودات. كانت صورة على ما أذكر غير ذائع صيتها كمثل البنت الصغيرة الفارة من قنبلة النابالْم إلا أنها من جنس الصور التي تحرق ذاكرتك مع ذاك: طفلة مدماة محالة -محالة لأن جسدها كان ضئيلًا- بين ذراعي أمريكي: عيني كليهما جوفاء على نحو ما، جامدة بكل ما للكلمة من معنى. ذهول، أفترض. لا يسعك إلا أن تتخيل ما قد أبصرت هاته العيون.

غير أن هاته كانت بعد حين على ما قلت.

كنا ما نزال نستبقي خبر حملي لنفسينا، إلا أني تيقنتُ أن نظرات العارفات ستتبادلها النسوة الأخريات ساعة رفضت كوكتيلًا. أذكر أني قد تلقيت فستانًا جديدًا وصل من ميزون غوج. فستان زهور حرير طويل. كنتُ أتطلع للبسه، متسائلة كم سيمضي قبل أن أضخم عن الخصر الملائم.

كنتُ في الحمام براني الحجرة الرئيسية. حمامٌ رحبٌ على الطراز الأوروبي وفيه حوض استحمام جميل. لما أزل في قميصي التحتاني متحينة كنتُ حتى آخر دقيقة لأرتدي فستاني الجديد. دوار مباغت، وثم تشنجة يسيرة. لا وقوعات هائلة قلابة. لا أزيد من عارض بهويان حدرة مصعد، يتبعه شكة خاطفة-كالنغزة في الجنب- في سُرتي. يتبعها في إثره اعتمال مطبق بالخراب: تقوض نفيس ولا يعوض، تلك النوبة التي في إثر خبر أي فقد، التي في إثر فقد ثمين بغتة انسل من بين أصابعك.

غير أن ذاك كان خاطفًا بالمثل. نفضته عني، أنهيت تمكيجي. رششتُ مثبت الشعر على شعري. قصدتُ الحمام مرة ثانية زيادة ورأيتُ بقعة الدم.

أستغربها الآن، بل استغربتها حتى ساعتئذٍ غير أن أول خاطرة طرأت على ذهني كانت أني ما أردتني من النسوة اللاتي قد أجهضن. ما أردتُ أن أكون واحدة في جماعة المتصنعات المتكلفات تلك، حافظة لذاك السر المخزي (لما كان هذا عداده آنئذٍ)؛ ذاك الفشل. حتى تلك اللحظة كنتُ في جنبة النسوة الصحيحات الولودات اللاتي أنجبن في يسر ذرية مشتدة وحسنة.

الآن بدائرة الدم الصغيرة كنتُ في جنبة العاثرات، الضعاف، هاته النسوة العليلات، الشاقات، طريحات الفراش الواضعات في شعورهن لفافات الشعر وعليهن ستر سرير ملطخات من لم يمنحن أزواجهن المكابدين مكابدة طويل أمدها أي عطية خلا الأسى والخيبة.

أردتُ ارتداء الفستان الجديد، ادعاء أن هذا ما كان يقع وينزل، المضي لا مبالية، إلا أنه تراءى لي الدم ملطخًا مقعدة تنورتي، متشبعًا به الحرير الفتان ومتسربًا منه فيما النسوة الجزعات إنما المزدريات في تأدب جئن لمعاونتي بمناديل الكتان الموضوعة في تعطف.

لما ناداني پيتِر من تحت ليقول إننا أبطأنا وتأخرنا سألته أن يطلع. سيماء مأتى الزوج العملي في الأناة وفراغ الصبر- فيها كان؛ وسعني تبينها، متهيأ ليخبرني أني بدوت على ما يرام، أن أي فستان كان حسنًا كسواه، أنا متأخرون- امحت إذ رآني، عليّ الآن قميص النوم، ممدة على سريرنا.

“ما الخطب؟”

قلتُ إن عندي نوبة غثيان. قلتُ إنه ربما غثيان الصباح الذي قد تجنبته حتى حيني قد وقع عليّ آخرًا هنا أواخر الظهر؛ ربما تخبط باختلاف التوقيت.

أمسك يدي. قال بأن لنا فض عزماتنا.

لكني خبرته أن يمضي. خبرته أني ما أردتُ إلا النوم وأنه سيكون هنا سحابة الليلة في فراغ. قد صرفنا الطباخ وصبي الحديقة إلى بيتهما، على فعلنا في الليالي التي نتعشى فيها برانيًا، ومِن لين -مدبرة بيتنا- سترجع إلى مسكنها ما أن قد أعدت حجرة نومنا لليل.

خبرتُ پيتِر أن يسألها المكوث، ربما لها أن تأتي بشاي متى قد نلتُ غفوة. أذكر أنه كان يلبس بدلة جديدة- قد جئتُ باسم الخياط من هلِن بِكفورد من كان زوجها متأنقًا دأبًا أناقة لا غبار عليها. كان حلق من توه، وسعني شم معطره المميز لما بعد الحلاقة. وراءه لمسة من الجن والتونك شربها على الدوام إذ انتظرني أفرغ من تجهزي. لاح صبيانيًا بقعدته على طرف السرير تلك، وكنتُ هيمانة به حتى أني همستُ دون تفكير: “قد نزل مني قليل دم”. وثم تمنيتُ أني ما قد فعلت.

احمر. “أذاك سيء؟” سأل.

“ليس بذاك” قلتُ، بسطوة اعتزتها كلية. “واردة”.

رأيته يختلس النظر من وجهي إلى ثديي، وركي، ساقي. وثم رد بصره ثانية على عجل، كما لو أن كل ما تحت عنقي- تلك الناحية التي قد استجلاها في هاته الشهور استجلاء الخبير- قد صارت على حين غرة غريبة عنه، مربكة بعض الشيء.

طلعنا بحل وسط: سيمضي إلى جمعة الكوكتيل، ثم يرجع ليستطلع حالي. ثم لنا آنئذٍ البت ما إن كنا سنطلع إلى العشاء أم لا.

أحسب أني نمتُ حينًا. لما صحوت – التشنجات الساعة كانت على صورة تشنجات الدورة كلية- الأنوار في الحجرة قد خفضت، المكيف كان يؤز، وعود بخور احترق على التسريحة. قصدتُ الحمام، دم زيادة، إنما من غير إدرار، ولما زحفتُ راجعة إلى السرير طلعت مِن لين ومعها صينية: إبريق شاي، فنجان رقيق وطبقه، صحن مقرمشات أرز.

ما قد عرفتُ حتى ذاك الحين أنها عرفت أني كنتُ حبلى.

كانت في أوسط عمرها، نحيلة، وبذل وكدح فيها. لاحت جدية في أول تلاقٍ، إلا أننا قد عرفنا عاجلًا أنها ضحوك في يسر. زعم پيتِر أنها فهمت الإنجليزية حق الفهم وكانت بالمثل طليقة اللسان بالفرنسية، غير أني ما قد نلتُ من الفرصة كثيرًا لأحادثها في استفاضة. قد كانت تقوم بأيمن حل في هذا المنزل منذ سنوات، وقد قبل الباعث في نفسي على الدوام بما خلته لا بد كان رسمها ونهجها الراسخ.

وضعت الصينية على طاولة جنب سريري وسكبت فنجانًا. جلستُ لآخذه منها. ثم مضت إلى النافذة لتطفأ المكيف، وثم شغلت المروحة العلوية. عرفتْ أن هذا النحو الذي عليه استحببتُ الحجرة لما كان تقيلي. رجعت إلى السرير وسألت: “حالكِ أحسن؟” هززتُ رأسي ليس إلا، منهكة كثيرًا وقلقلة من أكون مغرورة. ربتت على معدتها المسطحة.

“ألم شديد؟” سألت.

أومأت. وثم رفعتُ فنجان الشاي إلى شفتي لئلا أنتحب. لكن الدموع سالت على أي حال.

رويدًا أخذت الفنجان مني. أجرت يد مؤنسة على شعري، لما يزل يابسًا من مثبت شعر الطلعة. أحسب أنها استغربته. قصدت الحمام وعثرت على فرشاتي. ثم أومأت أن عليّ التنحي. قعدت جنبي ومشت شعري على مهل حتى مُشط المثبت فزال وقد بكيت ما وسعني من بكاء. وثم سحبت في لطف شعري وراء أذني وجدلته في أناقة. لما قضت أرجعت لي الفنجان. شربتُ الآن الشاي الفاتر، أكلتُ المقرمشات السذجة. عدلتْ الوسائد ورائي وقالت: “نامي رجاءً”.

إذ نمتُ ثانية تخيلتُ أن مودتي الصادقة مِن لين كانت لا محالة أخلص، أنقص تنازلًا، أنقص زهوًا، أنقص استعمارية لا ريب عن التابعات الأخريات ومدبرات منازلهن هنا في سيغون. صورة ثانية من العجرفة الأمريكية على ما أظن.

صحوتُ لما دخل پيتِر، طبيبي من البحرية وراءه. كلاهما قد نزعا جاكيته. لبس پيتِر قميص سهرة قصير الأكمام، ياقته مفتوحة وربطة عنقه محلولة. أما الطبيب فعليه كان لبسه العسكري البيج. ملآ الحجرة برائحة دخان السجائر والعرق.

سأل پيتِر محاذرًا: “كيف حالكِ حبيبتي؟” وقف عند أسفل السرير. بدا في خجل طفيف، ربما حرج، ولمستُ بغتة شعري: ضفيرة مِن لين الفرنسية أخذت تنحل. طلعة ما اعتادها. أخال أنها أظهرتني أضعف مما أحسست نفسي. عسر عليّ القعود. عرفتُ أني كنت أنزف غزيرًا الآن.

طبيب البحرية أتى سريرنا في سلطة أزيد مما قد كان لزوجي، ملقيًا جاكيته على السرير، قادمًا صوبي كما لو أنه سيؤتي تعديلًا طفيفًا برقبتي وعنقي سيرد النظام إلى محله. مس جبيني. كانت يده كبيرة وناعمة، ظاهر أصابعه تغطى بفرو رجولي. أحسستُ جسأة خشنة أو اثنتين. لاعب غولف أو تنس، خطر لي. ارتدى ساعة أنيقة.

“لا حرارة” قال، وثم قعد بثقله على طرف السرير. “أمن ألم؟” سأل.

خبرته على كره أني كنتُ متضايقة قليلًا. لا كثيرًا.

“لكِ أن تأخذي أسبرين” قال. “لن يؤذي الجنين”.

عرفتُ أنه كان مخمورًا. وسعني أن أرى كيف تحامل ليستبقي عينيه في انتباه كما ينبغي، ومع ذاك فكلماته ملأتني بالأمل. لو أنه صدق أن الطفل لن يضره الأسبرين فعليه صدق أن الجنين كان ما زال؛ ما زال متوجهًا نحو ولادته في هذا المكان العجاب.

“كان دم” همستُ، ونظرتُ في پيتِر الذي أشاح بنظره.

“وارد” قال الطبيب. “كان ينزل من زوجتي على الدوام دم لما كانت حبلى؛ أنجبنا خمس”.

أراني راحة يده، أصابعه مفرودة وتتحرك؛ كما لو ليبين أنهم خمس أطفال سمان وشعور على ظهورهم.

“لا شيء فوق العادة. أنتن الحوامل أول مرة تقلقلن من كل شاردة وواردة”.

ربت على فخذي. “أريحي نفسكِ يا أيها الام الصغيرة” قال. “خذي أسبرين إن اشتد الوجع”. أومأ صوب پيتِر. “سأصحب زوجكِ هذا إلى أكلة طيبة. سيطيب الحال صباحًا”.

سأل پيتِر: “أتريدينني أن أمكث؟”

أشرت له أن امضِ. الراجح أنه قد شرب كثيرًا بالمثل. “لا، اذهب” قلت.

الحق أني أردتهما كليهما أن يمضيا فيكون لي أن أقصد الحمام وأرى مقدار الدم. أردتُ أن آخذ طرف التطمين هذا الذي قد أعطاني الطبيب المخمور على واقع أن أيما كان ذاك جسدي كان عازمًا على فعله.

تباطآ حينًا أطول قليلًا. تباحثا في إتياني بطعمة أطعمها، حساء أو فا(3). خبرني پيتِر أنه قد سأل مِن لين أن تظل على مقربة. قد أمضت الليلة في حجرة النوم الثانية. قد جادت بأن تطهو بيضًا.

قلتُ – والراجح في نفاد صبر- بأني كنتُ على ما يرام. الراحة كانت ما احتجتُ.

“لا محالة” قال طبيب البحرية. “الراحة والدعة خير دواء”.

إذ فارقا الحجرة سأل زوجي الطبيب الطيب: “أتلك رولكس؟”

تحينتُ حتى سمعتُ طلعتهما من البوابة، حتى سمعتُ السيارة -ربما كانت في انتظارهما- أخذتهما ومضت.

في الحمام رأيتُ الدم كان غزيرًا. ثم رأيتُ في أوسطه كيس الجنين الصغير. تطاولتُ بيدي إلى المرحاض، إلى الماء والدم، وغرفتُ الشيء الضئيل مطلعته. أمسكته بين يدي المضمومتين. كان ما أصغره، إلا أني ما زلتُ أميز شكل حصان البحر الفاتح من كتب مناهج الأحياء في الكلية. تقوسه، العلامة الغامقة دلالة عين. أزللته من راحتي إلى منشفة مطوية جنب المغسلة، غسلتُ الدم من يدي، بدلت قميص نوم ثانٍ، ورجعت إلى السرير.

إذن: الآن كنتُ امرأة قد أجهضت. إذن: الآن سنعيد الكرة؛ الأمل الشهري والخيبة، الآن وفيها حيطة أزيد قليلًا، خوف أزيد قليلًا. الآن المستقبل اليسير، الخصب -ضلعي في معاشنا المفلح سوية- ما عاد يسيرًا. أو من كل بد معاشي.

سمعتُ من تحت جرس بوابتنا. سمعتُ مِن لين تطلع. سمعتُ صوتها إذ رجعت داخلة فيها -أحسستُ بهويان مصعد ثانية- صوت شارلين. سمعتُ شارلين تصعد الدرج.

لبستْ فستان حفلة كوكتيل بلا أكمام من الشَنتون الأخضر الغامق، مع تنورة ضيقة، بتقويرة V في الصدر، وياقة مرفوعة في الظهر؛ ملكية. كان شعرها مرفوعًا في تسريحة فرنسية، وحلقها الألماس تلألأ. لاحت عيناها البندقيتين خضراوين. كانت عن حق في ذاك النور الخافت جذابة جذب يلفت الأبصار. طرف شبه بينها وبين غريس كلي ومَلفسنت.

هيأتُ نفسي لردة فعلها بضحكة كعطسة، غير أن كل ما لفظته إذ دخلت الحجرة المعتمة كان “يا صبية”. ما كانت قولتها أمومية ولا تعطفًا. كانت – لغياب كلمة أحسن- عملية، نافذة، سلطوية حتى. مسلك ملكة. “ما الخطب؟”

خبرتها من غير بكاء أني قد أجهضت. أني قد كنتُ في نحو شهري الثالث.

قالت: “خرا”.

في هاته الأيام ما كنتُ – أجرؤ على القول بأن غالبنا ما كنا- معتادين على سماع نسوة من مثيل شارلين يشتمن على ذاك النحو. أفزعني، غير أنه رغبني بالمثل بالضحك.

عبست؛ “أمتيقنة؟”

أومأتُ صوب الحمام ومضت إليه ودخلت -كانت تلبس كعبًا أسودًا ذا شرائط- عملية كما قلت. لما رجعت كانت المنشفة التي فيها الجنين مطوية بين يديها. قعدت جنبي على السرير. جلست، ملتُ قبالة. وضعتُ وجنتي ولا تكاد خاطرة فيّ اعتملت، ولا يكاد شك فيّ اعتمل على ذراعها المسمرة والمنمشة، والتي كانت والعجيب باردة. كانت رائحة العرق النفاذة المعدنية تحت عطرها الحلو.

وضعت شارلين المنشفة على حجرها، على الحرير الأخضر البديع، وكشفت الشيء الصغير، لا يكاد يميز الساعة على القماش المشبع بالدم. نظرنا إليه سوية، في صمت، حينًا كأنه طال. كنتُ شاعرة بطقطقة المروحة فوق رؤوسنا، بالحرارة المتطاولة، بصوت المرور القصي والأصوات في الشارع، بجلد شارلين على جلدي. قد قارب عود البخور الخمود غير أن رائحته كانت ما زالت في الهواء.

 وأحسب أنها كانت هذه الرائحة فاطنة لما أبعدني عن البيت كنت، ما أغرب هذا المكان كان، ومع ذاك ما آلف كل ما حوالي وما أحرجه صار في النفس، كما لو أنه وبفشلي الصغير، بحزني قد تقلصت الدنيا، البعد قد فقد معناه. ما كان شيءٌ أجنبيًا. ما كان أحدٌ غريبًا.

قصدي هنا كانت شارلين، جنبي في حجرة نومي، وجنتي على ذراعها المكشوفة.

في تلطف وضعت المنشفة بيني يدي. تطاولت لنصف قارورة ماء ڤيتشي على الطاولة جنب سريري وصبت قطرة في راحتها. بللت رؤوس أصابع يدها اليمنى وصالبت فوق الشيء الضئيل. في رقة قالت: “أعمدك باسم الأب، والابن، والروح القدس”.

ثم أمالت رأسها وهمست صلاة الأبانا. دخلتُ معها، متوقفة في خرق إذ نطقت الشطر الأخير عند البروتستانت حصرًا (على ما خطر لي): ” لِأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ وَٱلْقُدْرَةَ وَٱلْمَجْدَ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ”.

كأنها كانت بالغات المهابة والعظمة لجماع خلايا صغير كمثل هذا.

أخذت المنشفة مني، طوتها ثانية.

“ماذا عليّ أن أفعل؟” سألتها، رغبة عن قول: “ماذا عليّ أن أفعل به؟” إلا أني عرفتُ أنها عرفت أن ذاك مقصدي.

شارلين قالت: “لنتمهل ونفكر”.

حملت المنشفة ثانية إلى الحمام، حطتها ثانية على حافة المغسلة.

لما رجعت أفرغت قارورة الماء في كأس. ثم قصدت حقيبة يدها وعثرت على علبة موصوفة صغيرة. فتحتها وهزتها فطلعت منها حبة ناولتنيها، مع الماء.

“لعلك تفعلين بالمثل” قالت لما ترددت.

ابتلعتُ الليبريم(4) ومن الماء. لاحت راضية. أخذت الكأس مني وانحنت نازلة لتهمس في أذني.

“أكره هذا” قالت، تهس الكلمات همسًا. “إني أكرهه”.

كان كرسي صغير من البامبو في ركن الحجرة، وحملته بيد واحدة إلى جنب السرير. قعدت، ركلت الكعب، دلكت أصابيعها المجوربة. في تبسط، في تبسط تثرثر أتت على ذكر من قد كان في الحفلة تلك الليلة. المشتبه بهم المعتادون، قالت. أظن أنه حينها كان السفير الأمريكي ماضيًا في عطلة عائلية إلى إيجة ونائب رئيس البعثة هو السفير بالنيابة. ما وسع شارلين قول اسمه -تروهَرت- من غير مسحة سخرية حقود في صوتها: “كأنه طالع من آيڤنهاو” قالت.

كان القيل والقال في هاته الأيام في سفير جديد: كان وفد أمريكي في البلدة، ربما ذي صلة بها. أذكر شارلين تخبرني أنه ما وسعهم الكف عن التعرق.

ماذا قالت أيضًا في تلك الليلة الطويلة؟ أذكر كيف أنها مالت من فوق حجرها وتحدثت بنبرة قد تستعملها (أنا نفسي قد استعملتها) لتسلي طفلًا عن حكة جدري، عن ركبة مسحوجة، عن حرارة. قد لمحت لمحة من مدام نو في مكان ما: جميلة، ضئيلة. ربما تعوزها البراعة قليلًا في استعمال قلم رسم الحواجب.

“السيدة التنين” قلتُ، لأريها شكريها على ما تبذل للتسلية.

نظرت فيّ بعينيها الخضراوان الباردتان، الوازنتين. “لا تنخدعي بها” قالت. “إنها امرأة ذات إقدام وعزم. والذي علة رغبة الرجال بكرهها”.

استرسلت: واحد ذو رتبة عالية في واحدة من الأجهزة الأمريكية – دائرة خدمات الهجرة والجنسية الأمريكية، بعثة عمليات الولايات المتحدة، لا يحضرني- قد كان في الحفلة مع زوجته التعيسة. الظاهر أنه قد كان غائبًا في الريف ست أسابيع، لأمر برنامج الضيع الريفي، وقد خلف الزوجة وحيدة في سيغون.

أصرت شارلين أني قد لقيت هاته المرأة في مكان ما؛ قد عرفتنا ببعض؛ كانت متيقنة. ” عصرية في ملبسها كانت” أفادت شارلين. “الليلة كانت لابسة من غي لاغوش، قطعتين، وردي مرجاني. كان ليكون مستحبًا لو أنه لابس مقاسها”. هزت رأسها كأنما قصدها: ما نفعل بهاته النسوة؟

“تصرف الفتاة مالًا وفيرًا على الملابس” قالت شارلين. “إنما في غير سداد. كلها فوضى. هي لا تريد الملابس. لا تريد سوى أن تدّفع زوجها ثمنها”.

في حين من الحفلة -قالت تشارلين- أخذ زوج هاته المرأة بمرفقها ليلفتها صوب معرفة سيعرفها، و”المسكينة” أزاحت نفسها عنه كما لو أنها قد سفعت. شتمها في سره. الكل سمعها. الكل رآها. سمجة مربكة عند الكل.

وهلِن بِكفورد كان عندها حكايا لتقاسمها. مالت شارلين فوق تنورتها. “هاته بيننا بس”. الظاهر -قالت شارلين- أن لهلِن صديق قد رجع إلى الوطن، من قد كان له صديق في البنتاغون، من كان له صديق لامرأة هناك من أعدت قائمة أرقام الاستدعاء للتجنيد لهيئة الأركان المشتركة. حتى خمس سنين مقبلة.

“الأمر عويص” قالت شارلين. “إذ تضع في حسبانها كل شاردة وواردة. التقاعد، إعادة التجنيد، الرجال الذين سيجندون ثم سيرفضون، كل الدبلوماسيين براني البلاد لا محالة. وعليها أن تعدها حتى خمس سنين مقبلة. في كل الفروع. عليها أن تتحرى الدقة بالغها. يا لها من مهمة”.

حاولتُ أن أستمع. أعرف أني سألت: “امرأة تقوم بهذه؟” غير أني إذ حكت كنتُ أصغي بالمثل لرجعة پيتِر، متمنية هذه المرة أنه لن يأتي بالطبيب معه. كنتُ أقلب في فكري فيما أعلي أن أريه الجنين الصغير. عزمتُ ألا، ينبغي ألا أفعلها.

كنتُ أفكر بما أسذجنا قد كنا؛ هو وأنا في هاته الشهور مصدقين أن كل مرحنا، كل ولوعنا وبهجتنا ستفضي -متعة فوق متعة- إلى طفل سليم بين أذرعنا، ابننا.

شارلين كانت تقول أن هلِن بِكفورد خبرتها الليلة أن الشهر الفارط هاته المرأة في البنتاغون سُئلت أن ترجع وتحسب ثانية تقديراتها للسنة التلو؛ 1964. هذا لا يقع أبدًا؛ قالت هلِن. هاته أعداد دقيقة، محسوبة في دقة لخمس سنوات مقبلات، لا داعٍ أبدًا لتقيمها ثانية. الواضح وضوح الشمس أن الأمر لا بد أتى من البيت الأبيض.

هذا الصديق خبر هلِن بِكفورد أن هاته المرأة في البنتاغون أمُرت أن تحسب تقديرات تجنيد السنة التلو ثانية بناءً على انسحاب كلي من ڤيتنام. كل كبار الضباط، كل الجنود، الطيارين، الشرطة العسكرية؛ الجميع. الكل خارج هنا في ختام السنة المقبلة.

“نُلقط كُججنا ونرجع وطننا” قالت شارلين. “لا تقليل القوات الذي كان يحكي چيه إف كيه وكفى. انسحاب كامل”.

تقلقلتُ في السرير؛ تشنج كان يبلغ أشده.

“ماذا عن الشيوعين؟” سألتُ، متمنية إثبات أني كنت أصغي.

وقفت شارلين، مشت بين جنبات الحجرة حتى عثرت على منفضة. طلعت سيجارة من حقيبة يدها. “ماذا عن الفلاحين؟” سألت، مشعلتها. وثم وفي ضحكة: “ماذا عن براون آند روت؟ ماذا عن إسو؟(5) ماذا عن مدام نو ذات الوجه البورسليني؟”

رجعت إلى الكرسي، هزت كتفيها، استرسلت في الحديث. قالت بأنها فتشت عني في حفل الاستقبال. عثرت على پيتِر؛ من خبرها أني متوعكة. وثم لا محالة رأته يطلع مع الدكتور بحرية.

” لا تعاودي ذاك الرجل” قالت. “المرة التلو. أبعد ما تبغين هو طبيب بحرية. لا يكادون يتبينون ما ينظرون فيه. يجعلون قدميك في هاته الأربطة التي كأنها رِكاب وآذانهم بين ركبتيك وبغتة الأمر وما فيه ارفع المنظار (6). يقضون ما بقي من الفحص يحاولون التفريق بين الميسرة والمميمنة. عاجبين أين بحق الرب الزُبر”.

تبسمتُ. ما أزال في دهشة -إنما راحت تخف- من لسان شارلين.

“قصدت فرنسيًا لروجر الصغير. قد امتهن هنا سنينًا. كل النخبة تعوده. أتى قلب البيت لأجل الولادة. أرادني كِنت أن أمضي هونج كونج، غير أني صممت أذني عنها. أخلي التوأمين هنا وحدهما؟”

طردت المشورة عنها بتلويحة من سيجارتها.

“اقصدي رجلي. سيشيخ في سنين، إلا أن فيه حبًا شديدًا راسخًا للنساء. أمر مبهج. أفكر في أن أحمل ثانية لا لشيء سوى رؤية عينيه البنيتين فوق بطني. ستنتشين”.

لما دخلت مِن لين مع صينيتها؛ مزيد شاي لكلتينا سألتني إن وددت بيضًا، وشارلين ردت: “يا إله السماوات لا”؛ التي كانت خالجتي عينًا. كنتُ مسرورة بتخليتها تتحدث عني. صبت مِن لين الشاي وناولت كل واحدة فينا فنجانًا. رأيتُ نظرتها نحو الحمام؛ كأنها كانت توشك أن تدخله لترتب لما شارلين قالت لها قولة بفرنسية عجلى. أمسكت مِن لين، ثم نظرت فيّ. ثم أومأت. قالت في رقة: “أفهم”.

طلعت مع صينيتها لكنها رجعت بعد حين بعود بخور ثانٍ وما بدا لي بادئًا كأنه حجر رمادي صغير. أشعلت العود ووضعته في دلو صغير فيه رمل حيث أشعلنا بخورنا. وثم وضعت الحجر قبالته. الحق أنه كان بوذا صغيرًا، باسمًا.

شارلين النابهة، الأفطن من الجميع قالت: “چيزو” ومِن لي هزت رأسها. “ديزَنق” همست. أومأت شارلين. “جميل جميل” قالت. “شكرًا لكِ”.

لما طلعت مِن لين ثانية نظرت شارلين فيّ وعبست. ما استحبت أن تُرد. “لا فرق بينهما”. “هو چيزو في اليابان. ديزَنق هنا. بوداسَف. حامي المسافرين، وبالمثل السقط أو المُجهضين. فعلة حبيبة فعلتها”.

خبرتني عندئذٍ أنها وكِنت كانا في طوكيو لما طرحت عقب التوأمين. صاحب ياباني قد أعطاها تمثالًا مشابهًا صغيرًا. كانت في شهرها الخامس.

“إني آسفة” قلتُ، لكن شارلين هزت كتفيها ورشفت شايها.

“المسكين الصغيرةكان لبك” قالت. “ما اكتمل نموها البتة. كانت كأنها قفاز مقلوب ظهرًا لبطن. مُسيخ”. قذفت ضُحكية. “ولو أني أظن أن تلك حقيقتنا كلنا. ظهرًا لبطن كلنا وحوش”.

كنتُ في سلوان مستغرب من إثر هذا الخبر. ما قد حتى حينها ورد في حسباني أن قد كان اختلال ونقص في معاش شارلين.

“الظاهر أن چيزو، أو ديزَنق” كانت تقول “يرعى الأرواح الصغيرة التي ما عاشت كفاية لتستكثر من الحسنات. من لا تقدر على العبور إلى عالم الأرواح؛ لا هنا ولا هناك أبد الدهر. مخلفة لتكوم حجارة إلى ما لا نهاية على طرف ضفة النهر ليس إلا. هاته الجنبة من نهر ستيكس وحسب، أظن أن في وسعكِ القول. ما تسمونه أنتم الكاثوليك المطهر. ليس مطهريًا بما للكلمة من معنى لأنه لا أمل يُرجى في التبدل”.

“أي كمد” قلتُ.

حشفت فيّ من الدخان. “سيتردى الأمر. هو مطهر لا رحمة فيه. الظاهر أن في هذا المحل شياطين، هذا المحل على ضفة النهر. أظن لئلا يتوهم الصغار ظنًا أنهم في الجنة. تعذب الشياطين هاته الأرواح التائهة، تبعثر حجارتها المكومة. أثر إحسان في بقعة ركود أبدي”.

أمسكت، تلقطت من التبغ من على لسانها. “أو من قبيله” زادت. “على ما أفهمها: چيزو بوداسَف لا بوذا لأنه انتخب ليخدم العالم السفلي فيل أن يبلغ هو التنوير. كمثل شهيد أظن. مكلف بالأحزن والأعقم. يبذل ما استطاع من إحسان لهؤلاء الآيسين. أي إحسان لا قدر له ولا وزن”.

أبصرتها تفرك إبهامها وبنصرها سوية تحت سيجارتها. علامة؛ كنتُ أخذتُ أعرف على خواطرها العجلى. “أو نحو ذاك” استرسلت، في رد على حين غرة. “البوذية أخاذة لكني لا أقول بأني أعيها عن حق”.

” مِن لين كاثوليكية” خبرتها.

هزت شارلين رأسها. “بالمثل مدام نو. لكنها كانت بوذية بادئًا”. حشفت ثانية. “أو ربما عثرت مِن لين على أنه في محله سياسيًا هاته الأيام أن تسمي نفسها كاثوليكية. مع كافة ما يجري فيها”.

عرفتُ أن هذا كان محالًا، غير أني ما قلتُ إلا: “رأيتها في قداس”.

ضحكت شارلين ضحكتها.

“طيب إذن أُعطيت أول بوذا صغير من لدن رومية كاثوليكية”. وثم زادت، متلطفة: “لكن تلك هي ڤيتنام. خبيصة”.

وقفت، نزعت التمثال الصغير من على التسريحة، واستجلته في عناية. ثم درجت بقدميها المجوربتين وناولتنيه. كان ربلًا، حلو المحيا، باسمًا لا محالة، مغمض العينين. ملامح أطفال صغار كانت منحوتة سطحية على حاشية جلبابه الحجرية. كان سلوان في الشاكلة التي وسعت فيها راحتي مثقال ذرة من الحجارة الباردة السعيدة هاته.

رفعته واعتملت فيّ غمرة دموع ثانية.

تطاولت شارلين لحقيبة يدها ثانية، حثتني على أخذ حبة ليبريم ثانية مع شايي. أخذتْ قليلًا منه بالمثل. جارعتها بثفل شايها.

في حين ما تلك الليلة أفضى حديثنا إلى مخاوف شارلين الليلة. قد أصابتها مذ ولد التوأمان. ليست كوابيس على التعيين؛ لأنها عرفت لما كانت تقع أنها ما كانت أحلامًا، وفوقها عرفت أنها ما كانت غافية. ومع ذاك -قالت- بأنها متى جهدت لتبينها -لزوجها، للطبيب الذي قد بعث بها إليه- تتناول على الدوام بادئًا وصف ظلمة. هاته المخاوف كانت -قالت- متفشٍ فيها إحساس رهيب بظلمة يقظة. أشبه بما لا بد يحسه أعمى حديث عهد. أو مدفون من قريب عهد. ظلمة منيعة لا يغيب عنها وهو منها ضلال، عثر، يطبقان يديهما على الهواء. ومع ذاك كان ذاك اليقين الهائل من طرفها بأن ثم ما استحق خوفها حقًا وعلمًا، شيءٌ كان حقيقة كما كان مفزعًا، هناك كان في الظلمة. فيها رهيب، أو قد يكون وراءها. ما كان نومًا، لا حلمًا، لا كابوسًا، وعلى الدوام اعتمل في نفسها إثره لو أنها قد استطاعت اتباعه، فزعة إنما ثابتة العزم لكانت عثرت على علة في حجاب الظلام؛ شق فيه. لكانت لمحت… ما استطاعت أن تسميه.

“فظيع” خبرتها. كنا نتحدث كلتينا في وسن الآن. الساعة أحسب، أو الليبريم.

“نعم” قالت شارلين. “فظيع لا ريب”.

كانت على الكرسي الصغير جنب سريري، ساق مرفوعة تحت حرير تنورتها الأخضر المستحب، الثانية تتأرجح في صبيانية. قالت إنها بعض الأحايين ليس إلا تصرخ في هاته النوبات. غالبًا تجلس على حين غرة في السرير، أو -وهذا يقض كِنت المسكين أكثر حتى- نهضت في صمت، العينان مفتوحتان على وسعهما إنما دون إبصار كليًا، ووقفت جامدة في الظلام، أو أحيانًا ويد ممدودة قبالتها، لا تكاد تتنفس، ولو أنه لما لمسها -قال- أنه أحس نبضها يتسارع في كل شق من بدنها. لستكابد لترد نفسها حاله الأولى. كممثلة رديئة في فلم رعب رخيص؛ قالت.

“طبيبنا في الوطن وصف الليبريم. أشار بطبيب نفسي. يقول إنه قلق؛ للأمر شأن بالإنجاب. ولو أني أشتبه أنه خبّر كِنت أني معتوهة كلية”. أمسكت. “أعرف أن وقعها كأنها سخافة. ما من أحد يستحب أن يصحو منقعًا بالعرق. إلا أني لست مستيقنة أني أريد الخلاص منها. هي تنبأني بشيء. في أمر نفسي أظن. من أنا. تخبرني بما ذهني الصغير المسن يقدر عليه”.

وثم ضحكت.

“لستُ حمقاء” زادت، صاحية بغتة. “ولن يُتعالى عليّ”. أمسكت، ناظرة في غير سدد، إلا أني هاته المرة عرفتُ أن مقايسة عينها الخضراء، نافذة الصبر ما كنتُ مرماها. “أنوي أن أرى المقدر لي رؤيته”.

“مثل؟” سألتها. أجرت عينيها على جدران حجرتنا الأربع. كانت وزغة فاتحة في ركن السقف القصي الظليل اندفعت بغتة ماضية، كما لو أن نظرتها لاحقتها.

“شياطين” قالت. “شياطين تريد أن تطيح بالحجارة الصغارة التي أكومها هنا”.

“في ڤيتنام؟” سألت. سقطت نظرتها الباردة عليّ ثانية.

“في المطهر” قالت.

لاحقًا من قبل أن يرجع پيتِر البيت من العشاء -كان ثملًا- فعلنا فعلة: شارلين ومِن لين وأنا؛ فعلة ما حدثت بها أحدًا قط. أخذنا الجُنين ودسسناه في علبة الأدوية المفرغة. أخلت شارلين حيزًا في كومة التراب على التسريحة ووضعت العلبة هناك. زدنا قليلًا من المناديل وقطعًا من عود بخور مكسر ثانٍ. تلونا صلاة ثانية. ذكرت الصلاة المريمية بالإنجليزية وقالت مِن لين نفسها بالڤيتنامية. (أذكر نظري في شارلين كأني أقول لها: أرأيتِ؟ هي كاثوليكية). عرفت شارلين الصلاة إنما بالفرنسية لا غير. سوية أشعلنا المحرقة وراقبنها تحترق. غلبت رائحة خشب الصندل الحجرة، ووقدة اللهب الخاطفة طالت وجه چيزو الحجري العذب؛ حامي مصابي الصغير، صاحب مُناي العابر والمشوه بطفل.