كل عام وأنتم بخير يا أصدقاء ❤️✨ أعاده الله عليكم وعلى أحبتكم بالخير والعافية والسلام والطمأنينة
هذه عيديتكم البسيطة مني وهي ترجمة مقتطف من الفصل الأول من أحدث كتب إيزابيل الليندي، أرجو لكم قراءة ممتعة ⭐
حينما أقول أني كنتُ نسويةً في الروضة، حتى قبل أن يُعرف هذا المصطلح في عائلتي فإني لا أبالغ. وُلدتُ سنة 1942، لذا نحن نتحدث هنا عن عتاقة سحيقة. أؤمن بأن وضع أمي -بانشيتا- هو ما أشعل ثورتي ضد السلطة الذكورية. إذ هجرها زوجها في البيرو وبين ذراعيها طفلين لم يخلعا حفائضهما ورضيع حديث الولادة. أُجبرت بانشيتا على العودة لمنزل والديها في تشيلي، حيث قضيتُ السنوات الأولى في طفولتي.
كان منزل جديّ في سانتياغو -في حي پروویدنثیا، ثم أصبح منطقة سكنية والآن متاهة من المكاتب والمحال- ضخمًا وقبيحًا، مسخًا إسمنتيًا ضخمًا، ذو أسقف مرتفعة، ومُعدلات للتيار، وجدرانٍ اسودت بسبب سخام دفايات الكيروسين، وفيه ستائر مخملية ثقيلة حمراء اللون، أثاث
أسباني صُنع ليعمر قرنًا، لوحات مُفزعة تصور الأقارب الأموات، وكُداسة كتبٍ مُغبرة. أما واجهة المنزل ففخمة مهيبة. حاول أحدهم أن يطلي غرفة المعيشة والمكتبة وغرفة تناول الطعام بصباغٍ أنيق، بيد أنها قلما استخدمت. أما بقية المنزل فكان المملكة الفوضوية لجدتي، للأطفال (أخواي وأنا)، للخادمات، ولكلبين أو ثلاثة من فصيلة يصعب تمييزها. كما تواجدت أيضًا عائلة من القطط شبه برية وتكاثرت دون حسيب ولا رقيب خلف الثلاجة، وحينها يجر الطباخ جماعات القطط الصغيرة إلى الفناء.
امحى نور المنزل ومتعته بعد وفاة جدتي التي رحلت قبل أوانها. أستحضر طفولتي وأراها زمنًا للخوف والظلمة. ممَ خفتُ؟ أن تموت أمي ونُرسل إلى ميتم، أن يخطفني القراصنة، أن يتراءى الشيطان في المرايا… حسنًا، لابد أنك فهمت ما أقصد. أنا ممتنة لتلك الطفولة التعيسة لأنها منحتني موردًا غزيرًا مستفيضًا لكتاباتي. لا أعرف كيف يتدبر الروائيون ذو الطفولات السعيدة في المنازل العادية أمرهم.
أدركتُ منذ البداية أن أمي في وضع غير مواتٍ مقارنة بالرجال في عائلتها. إذ تزوجت معارضة رغبة والديها وفشلت العلاقة، كما حُذرت بالضبط. اضطرت لتبطل زواجها، وهو المخرج الوحيد في تلك البلد إذ لم يشرع الطلاق حتى سنة 2004. لم تُدرب بانشيتا لتعمل، ليس في حوزتها مالٌ أو حرية، واستهدفتها النميمة، فهي لم تنفصل عن زوجها وحسب، بل كانت شابة وجميلة ومِغناج.
★
بدأ حنقي من الهيمنة الرجولية في سنوات الطفولة هذه برؤيتي لأمي وخادمات المنزل ضحايا. كن خاضعات بلا موارد، أو صوت يُسمع؛ أما أمي فلأنها تحدت الأعراف، وأما الخادمات فلأنهن كنا فقيرات. لم أفهم أيًا من هذا حينها طبعًا، وما استطعتُ ذلك إلا حينما بلغتُ الخامسة عشرة من عمري وقضيت وقتٍ في العلاج النفسي. لكني ورغم أني لم أستوعب ما يجري حينها إلا أن مشاعر حنقي وغضبي احتدت فوصمتني للأبد: أصبحتُ مهووسة بالعدالة ونميتُ ردة فعل غريزية عميق أجابه بها الشوفينية الذكورية.
عُد هذا الاستياء والامتعاض انحرافًا في عائلتي التي عدت نفسها مثقفة وعصرية، لكنها وبصراحة ووفقًا لمعايير الحاضر متحجرة.
استشارت بانشيتا العديد من الأطباء محاولةً معرفتي خطبي، لربما عانت ابنتها من مشاكل في القولون أو ربما غزت جسدها الدودة الشريطية؟ اعتقد إخوتي أن الشخصية صعبة المراس الميالة للتمرد شرط أساسي للذكورة، لكني لم أراها سوى صفات مرضية. إذ أليست كذلك دومًا؟ تجاهلت الفتيات حقهن بالغضب أو حتى التفكير فيه. تواجد في تشيلي بعض الأخصائيين النفسيين بل وحتى أخصائيين نفسيين للأطفال، لكن في الزمن الذي هيمنت فيه المحظورات التي سنها المجتمع لم يكن هؤلاء سوى آخر ملجأ ممكن للجنون العضال. كنا في عائلتي نحتمل المجانين سرًا بمنأى عن الأنظار. توسلت أمي إليّ بأن أصبح أكثر حصافة وتعقلًا، ومرة قالت لي: ” لا أعرف من أين تأتين بهذه الأفكار. سيذيع صيت بأنك مسترجلة” ولم تشرح لي يومها معنى تلك الكلمة.
امتلكتْ حينها سبب وجيهًا ليساورها القلق عليّ. طُردتُ من المدرسة -التي تديرها راهبات ألمانيات كاثوليكيات- في سن السادسة، بتهمة العصيان، وهو ما كان استهلالًا لمستقبلي. ربما كان السبب الحقيقي لطردي هو كون بانشيتا أمًا عزباء لثلاثة أطفال. ما كان يفترض بهذا أن يصدم الراهبات؛ فمعظم الأطفال في تشيلي وُلدوا خارج إطار الزواج، لكن لا يشيع هذا عادة في طبقتنا الإجتماعية.
اعتبرتُ أمي طيلة عقود ضحية، لكني تعلمتُ أني تعريف الضحية هي من لا حول لها ولا قوة في ظروفها. لا أعتقد أن هذا الوصف انطبق على حالتها. صحيحٌ أن أمي في سنوات طفولتي المبكرة بدت محاصرة، هشة، وأحيانًا يائسة، لكن وضعها تغير لاحقًا، حين التقت زوج أمي وبدأت تسافر. كان لها أن تقاتل في سبيل المزيد من الاستقلالية والحياة التي رغبت بها، كان بإمكانها أن تنمي إمكانياتها التي لا يُستهان بها بدلًا من الخضوع والخنوع. لكني أعرف أن قول هذا سهل عليّ لأني أنتمي لجيل النسويات. امتلكتُ بين يدي فرصًا لم تمتلكها.
★
تعلمتُ أيضًا خلال العلاج النفسي الذي خضعت له في عمر الخامسة عشرة أن غياب الأب ساهم أيضًا في تمردي. استغرقتُ زمنًا لأتقبل العم رامون -كما سأنادي دومًا الرجل الذي اقترنت به بانشيتا حينما كنتُ في الحادية عشرة من عمري- ولأفهم أني ما كنتُ لأحظى بأبٍ أفضل.
أدركتُ هذا حينما ولدت ابنتي -باولا- إذ شُغف بها حبًا (كان حبًا متبادلًا)، وأبصرتُ لأول مرة الجانب الرءُوم، رقيق العاطفة، اللعوب لزوج أمي الذي أعلنت عليه الحرب خلال مراهقتي. كرهته وشككتُ في سلطته، لكنه اتصف بالتفاؤل الكؤود ولم يلحظ ذلك حتى. بالنسبة له كنتُ دومًا ابنة مثالية! امتاز العم رامون بذاكرة تضعف أمام كل ما هو سلبي لدرجة أنه ناداني حينما تقدم به العمر آنجيليكا وهو اسمي الأوسط، وأخبرني بأن أنام على جانبي الأيمن لئلا أحطم أجنحتي. أعاد هذا مرارًا وتكرارًا حتى نهاية حياته، حينما قلصه الخرف وتعب الحياة والوجود إلى ظل للرجل الذي كانه فيما سبق.
أضحى العم رامون بمرور الوقت صديقي المقرب ومستودع أسراري. كان مرحًا، متسلطًا، فخورًا، وذكرًا شوفينيًا، برغم إنكاره للأخيرة محتجًا بأن أحد لم يغلبه في احترامه للمرأة. لم أستطع أبدًا أن أشرح له باستفاضة كيف تراءت هيمنته الذكورية الهائلة وتجلت. هجر زوجته التي أنجب منها أربعة أبناء، ولم تقبل زوجته أبدًا بفسخ الزواج الذي كان سيمسح له توثيق علاقته بأمي بالقانون. بيد أن ذلك لم يمنعهما من العيش معًا لمدة سبعين سنة. انتشرت في البدء الفضائح والشائعات، لكن لاحقًا خضعت قلة قليلة لارتباطهما وقبلت به. فالعادات سائبة وفي ظل غياب الطلاق يرتبط الطرفين وينفصلان بلا حاجة للبيروقراطية.
استاءت بانشيتا من عيوب شريكها بقدر ما أحبت واحترمت خصاله الطيبة. انتحلتْ دور الزوجة المسيطرة والغاضبة عادةً لأنها شعرت بعجزها عن تربية أطفالها لوحدها. فحتى تكون مُصانة ومحمية ثمن حتمي.
★
لم أفتقد أبي البيولوجي أبدًا ولم يراودني أي فضول للقائه. اشترط لموافقته على فسخ زواجه ببانشيتا ألا يضطر أبدًا للاعتناء بأطفاله، وبالغ في ذلك إلى حد أنه لم يقابلنا مرة أخرى أبدًا. وحين ذُكر اسمه بضع مرات في العائلة -وهو موضوع اجتنبناه بحرص شديد- أُصيبت أمي بصداع نصفي شديد. لم يخبروني سوى أنه تمتع بذكاء شديد وأنه أحبني كثيرًا. كما أُخبرت أيضًا أنه عزف لي موسيقا كلاسيكية وعرض عليّ كتب الفنون، وأني حين بلغتُ الثانية من عمري استطعتُ أن أميز بين الرسامين. فإن قال “مونيه” أو “رينوار” كنتُ أقلب الصفحات لأجد اللوحة الصحيحة. أشك. لا أستطيع فعل ذلك الآن، حتى لو وظفت كلياتي كلها. على أية حال قيل أن هذا كله حدث قبل بلوغي الثالثة، لذا لا أذكره، لكن على الأرجح خلف فيّ اختفاء أبي المفاجئ ندوبًا. أنى لي أن أثق بالرجال الذين يحبونك اليوم ثم يختفون غدًا؟
لا يعد هجران أبي لنا حدثًا استثنائيًا. فالنساء هنّ ركن الأسرة والمجتمع في تشيلي، خصوصًا في أوساط الطبقة العاملة، التي يجيء فيها الآباء ويذهبون ويختفون عادةً إلى الأبد، ولا يرون أطفالهم مرة أخرى أبدًا. أما الأمهات فهن الأشجار ذات الجذور الضاربة في أعماق الأرض بثبات. يعتنين بأطفالهن وأطفال الآخرين لو دعت الحاجة. النساء قويات متمكنات ومنظمات، ووصفت تشيلي بأنها ذات نظام أمومي. وتتردد هذه المغالطة على لسان الجميع بمن فيهم أسوأ رجال الكهوف. أما الحقيقة فهي أن الرجال يتحكمون بالسياسة والاقتصاد -فهم يشرعون القوانين ويطبقونها وفقًا لآهوائهم- وحينما لا يكفيهم ذلك تتدخل الكنيسة الكاثوليكية بغلوائها البطريركية المعروفة عنها لتدعمهم. لا ترأس النساء سوى عائلاتهن… وحتى هذا فلا يحدث سوى في أحيان قليلة.
★
عادةً ما تبدو النسوية مخيفة لأنها تبدو متطرفة أو لأنها تُترجم إلى كره محض للرجال. لا بد قبل أن أكمل أن أوضح ما يلي لبعض من قرائي. لنبدأ بمصطلح النظام الأبوي.
لعل تعريفي للنظام الأبوي سيختلف قليلًا عما تجده في ويكيبديا أو قاموس ميريام ويبستر. فالمصطلح يعني في الأصل سيادة الرجال المطلقة على النساء، على الفصائل الأخرى، على الطبيعة، بيد أن الحركة النسوية قوضت السلطة المطلقة في بضعة نواحٍ، برغم أنها في مناحٍ أخرى باقية ومستمرة كما هو حالها منذ آلاف السنوات. وبرغم تغير عددٍ من القوانين التميزية فما زال النظام الأبوي هو النظام السائد للاضطهاد السياسي، الاقتصادي، الثقافي والديني. ويضمن الهيمنة والامتياز لجنس الرجال. وينطوي تحت لواء هذا النظام بالإضافة للميسوجينية- أي ازدراء النساء- صور متعددة من الإقصاء والاعتداء من قبيل: العنصرية، رهاب المثلية، الطبقية، رهاب الغرباء، والتعصب ضد أي أفكار أو أشخاص مختلفين. فُرض النظام الأبوي بغرض الاضطهاد، وهو يطالب بالطاعة ويعاقب رافضيها.
وما هو تعريفي للنسوية؟ ليس ما نملكه بين سيقاننا بل ما نملكه بين آذاننا. إنها موقف وثورة فلسفية ضد سلطة الذكر. إنها طريقة لفهم العلاقات الإنسانية وطريقة لرؤية العالم. إنها التزام بالعدالة وصراع لتحرير النساء ومجتمع الميم، وأي شخص يضطهده النظام بما في ذلك بعض الرجال، وكل من يود أن ينضم. الجميع مرحب به! كلما زاد عددنا كان خيرًا.
قاتلتُ في شبابي لأجل المساواة. أردتُ أن أشارك في لعبة الرجال. لكني أدركتُ في سنوات نضجي أن اللعبة طيش، وأنها تدمر الكوكب والنسيج الأخلاقي للإنسانية. لا تتمحور النسوية حول تكرار الكارثة. بل حول إصلاحها ورأب الصدع. ونتيجةً لذلك فلا شك أنها ستتصادم مع قوى رجعية مثل: الأصولية، الفاشية، العادات، وغيرها الكثير. من المحزن رؤية العديد من النساء في صفوف القوى المعارضة، أولئك اللاتي يخفن التغير ويعجزن عن تخيل مستقبل مختلف.
إن النظام الأبوي متحجر قاسٍ. أما النسوية فكالمحيط مرنة، قوية، عميقة، وتضم تحت جناحها غموض الحياة اللانهائي وتعقدها، وهي تتحرك على شكل أمواج، تيارات، على شكل مدر وجزر، وأحيانًا أخرى كعواصف. ومثل المحيط لا تهدأ النسوية أبدًا.
★
افترضتُ خلال طفولتي أن عليّ أن أعتني بأمي وأعيل نفسي في أقرب وقت ممكن. وعززت هذه الفكرة رسالة جدي في الحياة. فرغم أنه احتل منصب بطريرك العائلة الحتمي إلا أنه أدرك مساوئ كوني امرأة وأراد أن يزودني بالعدة اللازمة؛ لئلا أضطر أبدًا للاعتماد على أي شخص. قضيتُ أولى ثماني سنوات من عمري تحت وصايته. ثم حينما بلغتُ السادسة عشرة من عمري انتقلتُ مرة أخرى للعيش معه حينما أرسلنا العم رامون وإخوتي إلى تشيلي. كنا نقيم في لبنان حيث عمل العم رامون قنصلًا، حين هددت الأزمات السياسية والدينية سنة 1958 بإقحام البلاد في حرب أهلية. اتجه أخواي إلى أكاديمية عسكرية في سانتياغو وذهبتُ أنا إلى منزل جدي.
بدأ جدي أوغسطين العمل في عمر الرابعة عشر حينما خلفت وفاة والده الأسرة في حالة عوز. تمحورت الحياة بالنسبة له حول الانضباط، الجهد، والمسؤولية. عاش شامخ الرأس بمبدأ الشرف أولًا. نشأتُ تحت تأثير مدرسة أفكاره الرواقية: تجنب التفاخر والإسراف، لا تشتكِ، تحمل، اعمل، لا تطلب أو تتوقع أي شيء، قم على شؤونك، ساعد واخدم الآخرين بلا تباهٍ.
قص عليّ هذه القصة مرات عديدة: عاش رجل لم يكن له سوى ولد وحيد أحبه من كل قلبه. حين بلغ الطفل الثانية عشرة من عمره أمره أبوه أن يقفز من شرفة الدور الثاني بلا خوف يعتريه؛ لأنه سيمسكه. أطاع الولد والده، لكن في اللحظة الأخيرة تكتف الأب وترك الولد يصطدم بالأرض. كُسرت العديد من عظامه جراء السقطة. كان المغزى من هذه الأسطورة القاسية ألا تثق بأحد، ولا حتى أبوك.
كان جدي رجلًا محبوبًا برغم قسوته وصرامته بسبب كرمه وخدمته غير المشروطة للآخرين. أحببته كثيرًا. أتذكر لبدته البيضاء، ضحكته العالية، أسنانه المصفرة، يداه التي لواها التهاب المفاصل، حسه الفكاهي العابث، والحقيقة الدامغة بأني كنتُ حفيدته المفضلة. كان ليحب حفيدًا آخر بلا شك، لكنه تعلم بمرور الزمن أن يحبني بغض النظر عن جندري؛ لأني ذكرته بزوجته الراحلة، جدتي إيزابيل التي أشاركها اسمًا وتعبيرًا يتراءى حول عيوننا.
★
اتضح خلال سني مراهقتي عدم انتمائي لأي بقعة أو مكان، وقُدر على جدي المسكين أن يتعامل معي. لم أكن كسولة أو وقحة بل على العكس. كنتُ طالبة جيدة وانصعت لقوانين الوجود المشترك بلا أية اعتراض. لكني عشتُ في حالة من الغضب المكبوت الذي لم يتجلَ في نوبات غضب أو هياج أو صفق للأبواب، بل فقط في حالة من الصمت الأبدي الاتهامي. كنتُ عقدة من التناقضات. شعرتُ بأني قبيحة، عيية، خفية، أني أسيرة وجود مضجر، وأن وحدتي شديدة. لم أشعر بالانتماء بين جنبات أي مجموعة. شعرتُ بأني مختلفة ومستثناة. حاربتُ العزلة بالقراءة النهمة وكتابة الرسائل اليومية لأمي، التي انتقلت حينها برفقة العم رامون من لبنان إلى تركيا. اعتادت هي أيضًا أن تكتب لي ولم نكترث باستغراق الرسائل أسابيع لتصلنا. وهكذا بدأت المراسلات التي أبقينا عليها ذكرى لحياتها.
وعيتُ بوضوح منذ كنت طفلة الظلم الذي يجتاح العالم. أتذكر خلال طفولتي أن الخادمات في المنزل عملنّ من مطلع الشمس حتى مغربها، لم يتمعن سوى بفترات راحة قليلة، ولم يجنين سوى الفتات من الأجور، ونمن في أقبية بلا نوافذ ولا أية قطعة أثاث سوى سرير نقال وخزانة ذات أدراج متداعية. (كان هذا خلال الأربعينات والخمسينات طبعًا، لم يعد الوضع الآن هكذا في تشيلي). وحينما بلغتُ سن المراهقة ازداد اهتمامي بالعدالة. فحينما انشغلت الفتيات الأخريات بمظهرهن وبكيفية جذب الصبيان كنت أنادي بالاشتراكية والنسوية. لا عجب أن لم يكن لي حينها أصدقاء. أغاظني الظلم واللامساواة. وكانت مسائل الطبقة الاجتماعية والفرص والأجور مرعبة مرهبة.
مورس أسوأ تمييز وتفريق ضد الفقراء -كما هي الحال دومًا- لكن الظلم الواقع على النساء هو ما أهمني وأشغلني. كنّا متخلفين بسنين ضوئية عن مزايا الحركات النسوية في أوروبا والولايات المتحدة، رغم أن بلادنا ضمت دومًا نساءً متبصرات ناضلنا لأجل تعليم أفضل وشاركن في السياسة، الصحة العامة، العلوم والفنون. لم يتحدث أحدٌ في بيئتي عن وضع النساء، لا في منزلي، لا في المدرسة، ولا في الصحافة حتى، لذا لا أعلم مما استقيت وعيي وكيف.
★
“ستكونين ضحية لاضطهاد الكثير من الذكور وستدفعين ثمنًا باهظًا لأفكاركِ” حذرتني أمي القلقة بعبارتها هذه. فبشخصيتي هذه لن أتزوج مطلقًا، وكانت العنوسة هي المصير الأسوأ. تصبح الواحدة عانسًا تقريبًا في عمر الخامسة والعشرين، لذا فالتعجل بتصيد زوج ضرورة. بذلت الفتيات جهودًا مضنية لتمسك بحبيب وتتزوجه سريعًا، بل الأخريات، والأذكى هن ما ينلن الشريك الأشد توافقًا معهن.
“أنا أمقت الهيمنة الرجولية أيضًا يا إيزابيل، لكن ما باليد حيلة، هذا هو حال العالم اليوم وهكذا كان دومًا”. أخبرتني بانشيتا. كنتُ قارئة نهمة وأكد لي ما تعلمته من الكتب أن العالم يتغير باستمرار والبشرية تتطور، لكن التغيرات لا تُنال إلا بعض صراع طويل.
أنا عجولة نافذة الصبر: أدرك الآن أني كنتُ أحاول حقن أمي بالنسوية إكراهًا، غير مراعية أنها كانت من عصرٍ آخر. أنتمي أنا للجيل الإنتقالي -بين جيل أمهاتنا وجيل بناتنا وحفيداتنا- الذي تصور وسير أهم ثورة في القرن العشرين. لربما اعترض أحدهم بأن الثورة الروسية سنة 1917 هي الأهم، بيد أن للثورة النسوية أثرٌ أعمق وأبقى: فهي تؤثر في نصف الإنسانية جمعاء. إذ انتشرتْ ولمست الملايين والملايين ومنحت أملًا لا يتزعزع بإمكانية استبدال الحضارة التي نحيا فيها أكثر تطورًا. وأدهش ذاك أمي وأرعبها. فهي تربت على إحدى مسلمات جدي أوغسطين: الشيطان الذي تعرفه خير من ذاك الذي تجهله.
لعلي خلفت في نفسك انطباعًا بأن أمي إحدى النساء المتزوجات الجادات، أي مثال طبق الأصل لطبقتها الاجتماعية وجيلها. لكنها ليست كذلك على الإطلاق. فبانشيتا لم تتناسب مع قالب نساء عصرها المعتاد. ولم تخف عليّ لأنها كانت محتشمة أو رجعية؛ بل لأنها أحبتني كثيرًا، وبسبب تجربتها الشخصية. أنا واثقة بأنها زرعت فيّ بذور التمرد دون إدراكها. والفرق بيني وبينها أنها ما كانت لتحظى بالحياة التي فضلتها في الريف، محاطة بالحيوانات، ترسم وتسير بين جنبات الطبيعة. ولذا بدلًا من ذلك خضعت لرغبات زوجها. إذ قرر هو وجهاتهما الدبلوماسية دون أن يستشيرها أحيانًا، وفرض عليها تفضيله لأسلوب معيشة متمدن وأخاذ. عاشا قصة حب طويلة جدًا لكن شابها الصراعات؛ إذ ومن بين أسباب عديدة عارضت متطلبات وظيفته ميولها وأهوائها، أما أنا فكنتُ مستقلة منذ سن صغيرة.
★
خلال إحدى حواراتنا في سنواتنا الماضية، بعد الكثير من الصراعات، وبعض الأخطاء، والقليل من الانتصارات أخبرت بانشيتا أني تعرضتُ لسيل من الاضطهادات كما تنبأتْ، بيد أنني وفي كل مرة تلقيت ضربة رددتها بضعفها. لم أقبل أبدًا الدور الأنثوي المحدود الذي فرضته عليّ أسرتي، فرضه المجتمع والثقافة والدين. حينما بلغتُ الخمسين هجرتُ الكنيسة للأبد، لا بسبب نقص في إيماني -الذي اكتسبته لاحقًا- بل بسبب الهيمنة الذكورية المتأصلة في كل المؤسسات الدينية. لا أستطيع الانتماء لمنظومة تعدني فردًا من الدرجة الثانية، والتي يتمتع مسؤولوها -وهم من الرجال دومًا- بالحصانة المطلقة ويفرضون قوانينهم على أنها عقيدة.
عرفتُ نفسي بأني امرأة حسب قواعدي الخاصة، دون تبصر. لم يكن أي شيء واضحًا أمام عيناي. لم يتراءى لي أي نماذج لأحذو حذوها، إلا لاحقًا حينما بدأت أعمل صحفية. لم تكن قراراتي منطقية أو واعية، كنت أتبع غريزة لا تقاوم. “الثمن الذي دفعته نصف قرن من اعتناقي النسوية هو صفقة رابحة يا أمي، سأدفعه مرة أخرى مضاعفًا ألف مرة” طمأنتها.
حانت اللحظة التي ما عاد من الممكن فيها إخفاء أفكاري عن جدي، بيد أني تفاجأت حينها. فذاك الشيخ الفخور بأصله الباسكي، الكاثوليكي، المتحجر، العنيد، والعجيب كان رجلٌ محترمًا، ذاك النوع من الرجال الذي يسحب الكراسي ويفتح الأبواب لأجل النساء. صُدم بأفكار حفيدته المضطربة، لكنه رغب على الأقل بالاستماع طالما أنها لم ترفع صوتها (على السيدة أن تتمتع بالسلوك الحسن واللباقة). تجاوز ذاك الموقف ما حلمت به وكان أكثر مما نلته من العم رامون الذي انتمى لجيل أصغر من جيل جدي أوغسطين. إذ لم يسترعَ انتباهه أي اهتمام بهواجس فتاة، ناهيك عن النسوية.