روح امرأة- إيزابيل الليندي

كل عام وأنتم بخير يا أصدقاء ❤️✨ أعاده الله عليكم وعلى أحبتكم بالخير والعافية والسلام والطمأنينة

هذه عيديتكم البسيطة مني وهي ترجمة مقتطف من الفصل الأول من أحدث كتب إيزابيل الليندي، أرجو لكم قراءة ممتعة

حينما أقول أني كنتُ نسويةً في الروضة، حتى قبل أن يُعرف هذا المصطلح في عائلتي فإني لا أبالغ. وُلدتُ سنة 1942، لذا نحن نتحدث هنا عن عتاقة سحيقة. أؤمن بأن وضع أمي -بانشيتا- هو ما أشعل ثورتي ضد السلطة الذكورية. إذ هجرها زوجها في البيرو وبين ذراعيها طفلين لم يخلعا حفائضهما ورضيع حديث الولادة. أُجبرت بانشيتا على العودة لمنزل والديها في تشيلي، حيث قضيتُ السنوات الأولى في طفولتي.  

كان منزل جديّ في سانتياغو -في حي پروویدنثیا، ثم أصبح منطقة سكنية والآن متاهة من المكاتب والمحال- ضخمًا وقبيحًا، مسخًا إسمنتيًا ضخمًا، ذو أسقف مرتفعة، ومُعدلات للتيار، وجدرانٍ اسودت بسبب سخام دفايات الكيروسين، وفيه ستائر مخملية ثقيلة حمراء اللون، أثاث
أسباني صُنع ليعمر قرنًا، لوحات مُفزعة تصور الأقارب الأموات، وكُداسة كتبٍ مُغبرة. أما واجهة المنزل ففخمة مهيبة. حاول أحدهم أن يطلي غرفة المعيشة والمكتبة وغرفة تناول الطعام بصباغٍ أنيق، بيد أنها قلما استخدمت. أما بقية المنزل فكان المملكة الفوضوية لجدتي، للأطفال (أخواي وأنا)، للخادمات، ولكلبين أو ثلاثة من فصيلة يصعب تمييزها. كما تواجدت أيضًا عائلة من القطط شبه برية وتكاثرت دون حسيب ولا رقيب خلف الثلاجة، وحينها يجر الطباخ جماعات القطط الصغيرة إلى الفناء.

امحى نور المنزل ومتعته بعد وفاة جدتي التي رحلت قبل أوانها. أستحضر طفولتي وأراها زمنًا للخوف والظلمة. ممَ خفتُ؟ أن تموت أمي ونُرسل إلى ميتم، أن يخطفني القراصنة، أن يتراءى الشيطان في المرايا… حسنًا، لابد أنك فهمت ما أقصد. أنا ممتنة لتلك الطفولة التعيسة لأنها منحتني موردًا غزيرًا مستفيضًا لكتاباتي. لا أعرف كيف يتدبر الروائيون ذو الطفولات السعيدة في المنازل العادية أمرهم.

أدركتُ منذ البداية أن أمي في وضع غير مواتٍ مقارنة بالرجال في عائلتها. إذ تزوجت معارضة رغبة والديها وفشلت العلاقة، كما حُذرت بالضبط. اضطرت لتبطل زواجها، وهو المخرج الوحيد في تلك البلد إذ لم يشرع الطلاق حتى سنة 2004. لم تُدرب بانشيتا لتعمل، ليس في حوزتها مالٌ أو حرية، واستهدفتها النميمة، فهي لم تنفصل عن زوجها وحسب، بل كانت شابة وجميلة ومِغناج.

بدأ حنقي من الهيمنة الرجولية في سنوات الطفولة هذه برؤيتي لأمي وخادمات المنزل ضحايا. كن خاضعات بلا موارد، أو صوت يُسمع؛ أما أمي فلأنها تحدت الأعراف، وأما الخادمات فلأنهن كنا فقيرات. لم أفهم أيًا من هذا حينها طبعًا، وما استطعتُ ذلك إلا حينما بلغتُ الخامسة عشرة من عمري وقضيت وقتٍ في العلاج النفسي. لكني ورغم أني لم أستوعب ما يجري حينها إلا أن مشاعر حنقي وغضبي احتدت فوصمتني للأبد: أصبحتُ مهووسة بالعدالة ونميتُ ردة فعل غريزية عميق أجابه بها الشوفينية الذكورية.

عُد هذا الاستياء والامتعاض انحرافًا في عائلتي التي عدت نفسها مثقفة وعصرية، لكنها وبصراحة ووفقًا لمعايير الحاضر متحجرة.

استشارت بانشيتا العديد من الأطباء محاولةً معرفتي خطبي، لربما عانت ابنتها من مشاكل في القولون أو ربما غزت جسدها الدودة الشريطية؟ اعتقد إخوتي أن الشخصية صعبة المراس الميالة للتمرد شرط أساسي للذكورة، لكني لم أراها سوى صفات مرضية. إذ أليست كذلك دومًا؟ تجاهلت الفتيات حقهن بالغضب أو حتى التفكير فيه. تواجد في تشيلي بعض الأخصائيين النفسيين بل وحتى أخصائيين نفسيين للأطفال، لكن في الزمن الذي هيمنت فيه المحظورات التي سنها المجتمع لم يكن هؤلاء سوى آخر ملجأ ممكن للجنون العضال. كنا في عائلتي نحتمل المجانين سرًا بمنأى عن الأنظار. توسلت أمي إليّ بأن أصبح أكثر حصافة وتعقلًا، ومرة قالت لي: ” لا أعرف من أين تأتين بهذه الأفكار. سيذيع صيت بأنك مسترجلة” ولم تشرح لي يومها معنى تلك الكلمة.

امتلكتْ حينها سبب وجيهًا ليساورها القلق عليّ. طُردتُ من المدرسة -التي تديرها راهبات ألمانيات كاثوليكيات- في سن السادسة، بتهمة العصيان، وهو ما كان استهلالًا لمستقبلي. ربما كان السبب الحقيقي لطردي هو كون بانشيتا أمًا عزباء لثلاثة أطفال. ما كان يفترض بهذا أن يصدم الراهبات؛ فمعظم الأطفال في تشيلي وُلدوا خارج إطار الزواج، لكن لا يشيع هذا عادة في طبقتنا الإجتماعية.

اعتبرتُ أمي طيلة عقود ضحية، لكني تعلمتُ أني تعريف الضحية هي من لا حول لها ولا قوة في ظروفها. لا أعتقد أن هذا الوصف انطبق على حالتها. صحيحٌ أن أمي في سنوات طفولتي المبكرة بدت محاصرة، هشة، وأحيانًا يائسة، لكن وضعها تغير لاحقًا، حين التقت زوج أمي وبدأت تسافر. كان لها أن تقاتل في سبيل المزيد من الاستقلالية والحياة التي رغبت بها، كان بإمكانها أن تنمي إمكانياتها التي لا يُستهان بها بدلًا من الخضوع والخنوع. لكني أعرف أن قول هذا سهل عليّ لأني أنتمي لجيل النسويات. امتلكتُ بين يدي فرصًا لم تمتلكها.   

تعلمتُ أيضًا خلال العلاج النفسي الذي خضعت له في عمر الخامسة عشرة أن غياب الأب ساهم أيضًا في تمردي. استغرقتُ زمنًا لأتقبل العم رامون -كما سأنادي دومًا الرجل الذي اقترنت به بانشيتا حينما كنتُ في الحادية عشرة من عمري- ولأفهم أني ما كنتُ لأحظى بأبٍ أفضل.

أدركتُ هذا حينما ولدت ابنتي -باولا- إذ شُغف بها حبًا (كان حبًا متبادلًا)، وأبصرتُ لأول مرة الجانب الرءُوم، رقيق العاطفة، اللعوب لزوج أمي الذي أعلنت عليه الحرب خلال مراهقتي. كرهته وشككتُ في سلطته، لكنه اتصف بالتفاؤل الكؤود ولم يلحظ ذلك حتى. بالنسبة له كنتُ دومًا ابنة مثالية! امتاز العم رامون بذاكرة تضعف أمام كل ما هو سلبي لدرجة أنه ناداني حينما تقدم به العمر آنجيليكا وهو اسمي الأوسط، وأخبرني بأن أنام على جانبي الأيمن لئلا أحطم أجنحتي. أعاد هذا مرارًا وتكرارًا حتى نهاية حياته، حينما قلصه الخرف وتعب الحياة والوجود إلى ظل للرجل الذي كانه فيما سبق.

أضحى العم رامون بمرور الوقت صديقي المقرب ومستودع أسراري. كان مرحًا، متسلطًا، فخورًا، وذكرًا شوفينيًا، برغم إنكاره للأخيرة محتجًا بأن أحد لم يغلبه في احترامه للمرأة. لم أستطع أبدًا أن أشرح له باستفاضة كيف تراءت هيمنته الذكورية الهائلة وتجلت. هجر زوجته التي أنجب منها أربعة أبناء، ولم تقبل زوجته أبدًا بفسخ الزواج الذي كان سيمسح له توثيق علاقته بأمي بالقانون. بيد أن ذلك لم يمنعهما من العيش معًا لمدة سبعين سنة. انتشرت في البدء الفضائح والشائعات، لكن لاحقًا خضعت قلة قليلة لارتباطهما وقبلت به. فالعادات سائبة وفي ظل غياب الطلاق يرتبط الطرفين وينفصلان بلا حاجة للبيروقراطية.

استاءت بانشيتا من عيوب شريكها بقدر ما أحبت واحترمت خصاله الطيبة. انتحلتْ دور الزوجة المسيطرة والغاضبة عادةً لأنها شعرت بعجزها عن تربية أطفالها لوحدها. فحتى تكون مُصانة ومحمية ثمن حتمي.

لم أفتقد أبي البيولوجي أبدًا ولم يراودني أي فضول للقائه. اشترط لموافقته على فسخ زواجه ببانشيتا ألا يضطر أبدًا للاعتناء بأطفاله، وبالغ في ذلك إلى حد أنه لم يقابلنا مرة أخرى أبدًا. وحين ذُكر اسمه بضع مرات في العائلة -وهو موضوع اجتنبناه بحرص شديد- أُصيبت أمي بصداع نصفي شديد. لم يخبروني سوى أنه تمتع بذكاء شديد وأنه أحبني كثيرًا. كما أُخبرت أيضًا أنه عزف لي موسيقا كلاسيكية وعرض عليّ كتب الفنون، وأني حين بلغتُ الثانية من عمري استطعتُ أن أميز بين الرسامين. فإن قال “مونيه” أو “رينوار” كنتُ أقلب الصفحات لأجد اللوحة الصحيحة. أشك. لا أستطيع فعل ذلك الآن، حتى لو وظفت كلياتي كلها. على أية حال قيل أن هذا كله حدث قبل بلوغي الثالثة، لذا لا أذكره، لكن على الأرجح خلف فيّ اختفاء أبي المفاجئ ندوبًا. أنى لي أن أثق بالرجال الذين يحبونك اليوم ثم يختفون غدًا؟

لا يعد هجران أبي لنا حدثًا استثنائيًا. فالنساء هنّ ركن الأسرة والمجتمع في تشيلي، خصوصًا في أوساط الطبقة العاملة، التي يجيء فيها الآباء ويذهبون ويختفون عادةً إلى الأبد، ولا يرون أطفالهم مرة أخرى أبدًا. أما الأمهات فهن الأشجار ذات الجذور الضاربة في أعماق الأرض بثبات. يعتنين بأطفالهن وأطفال الآخرين لو دعت الحاجة. النساء قويات متمكنات ومنظمات، ووصفت تشيلي بأنها ذات نظام أمومي. وتتردد هذه المغالطة على لسان الجميع بمن فيهم أسوأ رجال الكهوف. أما الحقيقة فهي أن الرجال يتحكمون بالسياسة والاقتصاد -فهم يشرعون القوانين ويطبقونها وفقًا لآهوائهم- وحينما لا يكفيهم ذلك تتدخل الكنيسة الكاثوليكية بغلوائها البطريركية المعروفة عنها لتدعمهم. لا ترأس النساء سوى عائلاتهن… وحتى هذا فلا يحدث سوى في أحيان قليلة.

 ★

عادةً ما تبدو النسوية مخيفة لأنها تبدو متطرفة أو لأنها تُترجم إلى كره محض للرجال. لا بد قبل أن أكمل أن أوضح ما يلي لبعض من قرائي. لنبدأ بمصطلح النظام الأبوي.

لعل تعريفي للنظام الأبوي سيختلف قليلًا عما تجده في ويكيبديا أو قاموس ميريام ويبستر. فالمصطلح يعني في الأصل سيادة الرجال المطلقة على النساء، على الفصائل الأخرى، على الطبيعة، بيد أن الحركة النسوية قوضت السلطة المطلقة في بضعة نواحٍ، برغم أنها في مناحٍ أخرى باقية ومستمرة كما هو حالها منذ آلاف السنوات. وبرغم تغير عددٍ من القوانين التميزية فما زال النظام الأبوي هو النظام السائد للاضطهاد السياسي، الاقتصادي، الثقافي والديني. ويضمن الهيمنة والامتياز لجنس الرجال. وينطوي تحت لواء هذا النظام بالإضافة للميسوجينية- أي ازدراء النساء- صور متعددة من الإقصاء والاعتداء من قبيل: العنصرية، رهاب المثلية، الطبقية، رهاب الغرباء، والتعصب ضد أي أفكار أو أشخاص مختلفين. فُرض النظام الأبوي بغرض الاضطهاد، وهو يطالب بالطاعة ويعاقب رافضيها.

وما هو تعريفي للنسوية؟ ليس ما نملكه بين سيقاننا بل ما نملكه بين آذاننا. إنها موقف وثورة فلسفية ضد سلطة الذكر. إنها طريقة لفهم العلاقات الإنسانية وطريقة لرؤية العالم. إنها التزام بالعدالة وصراع لتحرير النساء ومجتمع الميم، وأي شخص يضطهده النظام بما في ذلك بعض الرجال، وكل من يود أن ينضم. الجميع مرحب به! كلما زاد عددنا كان خيرًا.

قاتلتُ في شبابي لأجل المساواة. أردتُ أن أشارك في لعبة الرجال. لكني أدركتُ في سنوات نضجي أن اللعبة طيش، وأنها تدمر الكوكب والنسيج الأخلاقي للإنسانية. لا تتمحور النسوية حول تكرار الكارثة. بل حول إصلاحها ورأب الصدع. ونتيجةً لذلك فلا شك أنها ستتصادم مع قوى رجعية مثل: الأصولية، الفاشية، العادات، وغيرها الكثير. من المحزن رؤية العديد من النساء في صفوف القوى المعارضة، أولئك اللاتي يخفن التغير ويعجزن عن تخيل مستقبل مختلف.

إن النظام الأبوي متحجر قاسٍ. أما النسوية فكالمحيط مرنة، قوية، عميقة، وتضم تحت جناحها غموض الحياة اللانهائي وتعقدها، وهي تتحرك على شكل أمواج، تيارات، على شكل مدر وجزر، وأحيانًا أخرى كعواصف. ومثل المحيط لا تهدأ النسوية أبدًا.

افترضتُ خلال طفولتي أن عليّ أن أعتني بأمي وأعيل نفسي في أقرب وقت ممكن. وعززت هذه الفكرة رسالة جدي في الحياة. فرغم أنه احتل منصب بطريرك العائلة الحتمي إلا أنه أدرك مساوئ كوني امرأة وأراد أن يزودني بالعدة اللازمة؛ لئلا أضطر أبدًا للاعتماد على أي شخص. قضيتُ أولى ثماني سنوات من عمري تحت وصايته. ثم حينما بلغتُ السادسة عشرة من عمري انتقلتُ مرة أخرى للعيش معه حينما أرسلنا العم رامون وإخوتي إلى تشيلي. كنا نقيم في لبنان حيث عمل العم رامون قنصلًا، حين هددت الأزمات السياسية والدينية سنة 1958 بإقحام البلاد في حرب أهلية. اتجه أخواي إلى أكاديمية عسكرية في سانتياغو وذهبتُ أنا إلى منزل جدي.

بدأ جدي أوغسطين العمل في عمر الرابعة عشر حينما خلفت وفاة والده الأسرة في حالة عوز. تمحورت الحياة بالنسبة له حول الانضباط، الجهد، والمسؤولية. عاش شامخ الرأس بمبدأ الشرف أولًا. نشأتُ تحت تأثير مدرسة أفكاره الرواقية: تجنب التفاخر والإسراف، لا تشتكِ، تحمل، اعمل، لا تطلب أو تتوقع أي شيء، قم على شؤونك، ساعد واخدم الآخرين بلا تباهٍ.

قص عليّ هذه القصة مرات عديدة: عاش رجل لم يكن له سوى ولد وحيد أحبه من كل قلبه. حين بلغ الطفل الثانية عشرة من عمره أمره أبوه أن يقفز من شرفة الدور الثاني بلا خوف يعتريه؛ لأنه سيمسكه. أطاع الولد والده، لكن في اللحظة الأخيرة تكتف الأب وترك الولد يصطدم بالأرض. كُسرت العديد من عظامه جراء السقطة. كان المغزى من هذه الأسطورة القاسية ألا تثق بأحد، ولا حتى أبوك.

كان جدي رجلًا محبوبًا برغم قسوته وصرامته بسبب كرمه وخدمته غير المشروطة للآخرين. أحببته كثيرًا. أتذكر لبدته البيضاء، ضحكته العالية، أسنانه المصفرة، يداه التي لواها التهاب المفاصل، حسه الفكاهي العابث، والحقيقة الدامغة بأني كنتُ حفيدته المفضلة. كان ليحب حفيدًا آخر بلا شك، لكنه تعلم بمرور الزمن أن يحبني بغض النظر عن جندري؛ لأني ذكرته بزوجته الراحلة، جدتي إيزابيل التي أشاركها اسمًا وتعبيرًا يتراءى حول عيوننا.

اتضح خلال سني مراهقتي عدم انتمائي لأي بقعة أو مكان، وقُدر على جدي المسكين أن يتعامل معي. لم أكن كسولة أو وقحة بل على العكس. كنتُ طالبة جيدة وانصعت لقوانين الوجود المشترك بلا أية اعتراض. لكني عشتُ في حالة من الغضب المكبوت الذي لم يتجلَ في نوبات غضب أو هياج أو صفق للأبواب، بل فقط في حالة من الصمت الأبدي الاتهامي. كنتُ عقدة من التناقضات. شعرتُ بأني قبيحة، عيية، خفية، أني أسيرة وجود مضجر، وأن وحدتي شديدة. لم أشعر بالانتماء بين جنبات أي مجموعة. شعرتُ بأني مختلفة ومستثناة. حاربتُ العزلة بالقراءة النهمة وكتابة الرسائل اليومية لأمي، التي انتقلت حينها برفقة العم رامون من لبنان إلى تركيا. اعتادت هي أيضًا أن تكتب لي ولم نكترث باستغراق الرسائل أسابيع لتصلنا. وهكذا بدأت المراسلات التي أبقينا عليها ذكرى لحياتها.

وعيتُ بوضوح منذ كنت طفلة الظلم الذي يجتاح العالم. أتذكر خلال طفولتي أن الخادمات في المنزل عملنّ من مطلع الشمس حتى مغربها، لم يتمعن سوى بفترات راحة قليلة، ولم يجنين سوى الفتات من الأجور، ونمن في أقبية بلا نوافذ ولا أية قطعة أثاث سوى سرير نقال وخزانة ذات أدراج متداعية. (كان هذا خلال الأربعينات والخمسينات طبعًا، لم يعد الوضع الآن هكذا في تشيلي). وحينما بلغتُ سن المراهقة ازداد اهتمامي بالعدالة. فحينما انشغلت الفتيات الأخريات بمظهرهن وبكيفية جذب الصبيان كنت أنادي بالاشتراكية والنسوية. لا عجب أن لم يكن لي حينها أصدقاء. أغاظني الظلم واللامساواة. وكانت مسائل الطبقة الاجتماعية والفرص والأجور مرعبة مرهبة.

مورس أسوأ تمييز وتفريق ضد الفقراء -كما هي الحال دومًا- لكن الظلم الواقع على النساء هو ما أهمني وأشغلني. كنّا متخلفين بسنين ضوئية عن مزايا الحركات النسوية في أوروبا والولايات المتحدة، رغم أن بلادنا ضمت دومًا نساءً متبصرات ناضلنا لأجل تعليم أفضل وشاركن في السياسة، الصحة العامة، العلوم والفنون. لم يتحدث أحدٌ في بيئتي عن وضع النساء، لا في منزلي، لا في المدرسة، ولا في الصحافة حتى، لذا لا أعلم مما استقيت وعيي وكيف.   

“ستكونين ضحية لاضطهاد الكثير من الذكور وستدفعين ثمنًا باهظًا لأفكاركِ” حذرتني أمي القلقة بعبارتها هذه. فبشخصيتي هذه لن أتزوج مطلقًا، وكانت العنوسة هي المصير الأسوأ. تصبح الواحدة عانسًا تقريبًا في عمر الخامسة والعشرين، لذا فالتعجل بتصيد زوج ضرورة. بذلت الفتيات جهودًا مضنية لتمسك بحبيب وتتزوجه سريعًا، بل الأخريات، والأذكى هن ما ينلن الشريك الأشد توافقًا معهن.

“أنا أمقت الهيمنة الرجولية أيضًا يا إيزابيل، لكن ما باليد حيلة، هذا هو حال العالم اليوم وهكذا كان دومًا”. أخبرتني بانشيتا. كنتُ قارئة نهمة وأكد لي ما تعلمته من الكتب أن العالم يتغير باستمرار والبشرية تتطور، لكن التغيرات لا تُنال إلا بعض صراع طويل.

أنا عجولة نافذة الصبر: أدرك الآن أني كنتُ أحاول حقن أمي بالنسوية إكراهًا، غير مراعية أنها كانت من عصرٍ آخر. أنتمي أنا للجيل الإنتقالي -بين جيل أمهاتنا وجيل بناتنا وحفيداتنا- الذي تصور وسير أهم ثورة في القرن العشرين. لربما اعترض أحدهم بأن الثورة الروسية سنة 1917 هي الأهم، بيد أن للثورة النسوية أثرٌ أعمق وأبقى: فهي تؤثر في نصف الإنسانية جمعاء. إذ انتشرتْ ولمست الملايين والملايين ومنحت أملًا لا يتزعزع بإمكانية استبدال الحضارة التي نحيا فيها أكثر تطورًا. وأدهش ذاك أمي وأرعبها. فهي تربت على إحدى مسلمات جدي أوغسطين: الشيطان الذي تعرفه خير من ذاك الذي تجهله.

لعلي خلفت في نفسك انطباعًا بأن أمي إحدى النساء المتزوجات الجادات، أي مثال طبق الأصل لطبقتها الاجتماعية وجيلها. لكنها ليست كذلك على الإطلاق. فبانشيتا لم تتناسب مع قالب نساء عصرها المعتاد. ولم تخف عليّ لأنها كانت محتشمة أو رجعية؛ بل لأنها أحبتني كثيرًا، وبسبب تجربتها الشخصية. أنا واثقة بأنها زرعت فيّ بذور التمرد دون إدراكها. والفرق بيني وبينها أنها ما كانت لتحظى بالحياة التي فضلتها في الريف، محاطة بالحيوانات، ترسم وتسير بين جنبات الطبيعة. ولذا بدلًا من ذلك خضعت لرغبات زوجها. إذ قرر هو وجهاتهما الدبلوماسية دون أن يستشيرها أحيانًا، وفرض عليها تفضيله لأسلوب معيشة متمدن وأخاذ. عاشا قصة حب طويلة جدًا لكن شابها الصراعات؛ إذ ومن بين أسباب عديدة عارضت متطلبات وظيفته ميولها وأهوائها، أما أنا فكنتُ مستقلة منذ سن صغيرة.

خلال إحدى حواراتنا في سنواتنا الماضية، بعد الكثير من الصراعات، وبعض الأخطاء، والقليل من الانتصارات أخبرت بانشيتا أني تعرضتُ لسيل من الاضطهادات كما تنبأتْ، بيد أنني وفي كل مرة تلقيت ضربة رددتها بضعفها. لم أقبل أبدًا الدور الأنثوي المحدود الذي فرضته عليّ أسرتي، فرضه المجتمع والثقافة والدين. حينما بلغتُ الخمسين هجرتُ الكنيسة للأبد، لا بسبب نقص في إيماني -الذي اكتسبته لاحقًا- بل بسبب الهيمنة الذكورية المتأصلة في كل المؤسسات الدينية. لا أستطيع الانتماء لمنظومة تعدني فردًا من الدرجة الثانية، والتي يتمتع مسؤولوها -وهم من الرجال دومًا- بالحصانة المطلقة ويفرضون قوانينهم على أنها عقيدة.

عرفتُ نفسي بأني امرأة حسب قواعدي الخاصة، دون تبصر. لم يكن أي شيء واضحًا أمام عيناي. لم يتراءى لي أي نماذج لأحذو حذوها، إلا لاحقًا حينما بدأت أعمل صحفية. لم تكن قراراتي منطقية أو واعية، كنت أتبع غريزة لا تقاوم. “الثمن الذي دفعته نصف قرن من اعتناقي النسوية هو صفقة رابحة يا أمي، سأدفعه مرة أخرى مضاعفًا ألف مرة” طمأنتها.

حانت اللحظة التي ما عاد من الممكن فيها إخفاء أفكاري عن جدي، بيد أني تفاجأت حينها. فذاك الشيخ الفخور بأصله الباسكي، الكاثوليكي، المتحجر، العنيد، والعجيب كان رجلٌ محترمًا، ذاك النوع من الرجال الذي يسحب الكراسي ويفتح الأبواب لأجل النساء. صُدم بأفكار حفيدته المضطربة، لكنه رغب على الأقل بالاستماع طالما أنها لم ترفع صوتها (على السيدة أن تتمتع بالسلوك الحسن واللباقة). تجاوز ذاك الموقف ما حلمت به وكان أكثر مما نلته من العم رامون الذي انتمى لجيل أصغر من جيل جدي أوغسطين. إذ لم يسترعَ انتباهه أي اهتمام بهواجس فتاة، ناهيك عن النسوية.

كتابة الحياة- زادي سميث

من كتابها (Feel Free) الصادر سنة 2018

منذ الأزل أردتُ أن أحتفظ بمذكراتي. حاولتُ ذلك خلال المراهقة ولكن دومًا ما كنتُ أتخلى عن ذلك. حلمتُ أن أكون صريحة جدًا مثل جو أورتون(1)، المعجبة بمذكراته، والتي وجدتها في المكتبة حين كنتُ في الرابعة عشر من عمري. كانت قراءتي لها مقسمة بين الاهتمام الأدبي و بين الإباحية، مبتهجة باللحاق بجو في زوايا المدينة وأزقتها حيث مشيتُ أنا فقط بينما استطاع هو أن يحظى بجنسٍ محظور ومحرم. فكرتُ: إذا كنتُ تنوين كتابة مذكراتك فيجب أن تكون كهذه، يجب أن تكون حرة بكل ما للكلمة من معنى، أن تكون صادقة. لكني اكتشفتُ أني غير قادرة على الكتابة عن الرغبات الجنسية (خجولة جدًا، مخادعة جدًا)، ولا أقدر على وصف أي ممارسة جنسية -لم أكن مارستُ أي منها- لذا سنحدر المذكرات إلى بيان مبتذل لإعجابات مزيفة ورومنسية متخيلة وسرعان ما سأتقزز منها وسأنحيها جانبًا. لاحقًا حاولتُ مرة أخرى، حاشدةٌ هذه المرة تركيزي في الكتابة على المدرسة فقط كما لو أنني شخصية في أعمال جودي بلوم (2)، مُفصلة حوادث ساحة اللعب ودراما الصداقات، لكني لم أقدر أبدًا على حجب احتمالية وجود قراء لما أكتبه في عقلي، وهذا أفسد الكتابة عليّ إذا بدت كما لو أنها واجبٌ مدرسي. حاولتُ دومًا صياغة الأحداث لصالحي في حال عثر أحدهم على المذكرات في المدرسة وعرضها على الجميع. كانت فكرة الكذب في كتابة المذكرات – هذا الصوت المسموع المفترض أنه لا لأحدٍ سواك- فكرة مخيبة لي. شعرتُ بأن في الحياة حيل وخدع كثيرة دون خلق ما كأنه نمط لأفكارك الذاتية الحميمية. أو لربما كان العكس: البعض قادرٌ على كتابة شعوره بصراحة وبساطة بينما لم أكن أنا قادرة على تحرير نفسي من حبها فيما يشبه النمط المحدد.

كشابة قرأتُ الكثير من مذكرات فرجينيا وولف ومرة أخرى اعتقدتُ بأن عليّ أن أكتب مذكراتي. عرفتُ نفسي حينها معرفة كافية لأدرك أن إعادة قص مشاعري الشخصية في المذكرات فعلٌ لا يُطاق بالنسبة لي ولا يُحتمل، كنتُ واعية بذاتي وعيًا تامًا، وكسولة جدًا لأحتمل عبء العمل اليومي هذا. لذا حاولتُ نسخ صياغة وأسلوب فرجينيا في كتابها “مذكرات كاتبة” وكنتُ أدون فقط في الأيام التي يخطر لي فيها شيءٌ أدبي: إما كتبته أنا أو قرأته، أو حدث لكتاب آخرين. عاشت تلك المذكرات ليوم واحد فقط. تضمنت ظهيرة قضيتها بصحبة جيفري إوجينديس (3) واحتلت اثنتي عشر صفحة ونص ليلة. انسي الأمر! على هذا المنوال سيستغرق تدوين الحياة زمنًا أطول من عيشها. أعتقد أن جزءً من المشكلة كان بسبب الحاجة للكتابة بصيغة المتحدث، الصيغة التي كنت أعدها -حتى زمن قريب- شاقة ومُنهكة. لم أكن قادرة على استخدامها بثقة سوى في بضعة مقاطع مقالية قصيرة أتحدث فيها عن انفجارات شعورية. حين كنتُ أصغر سنًا كان حتى مظهر الضمير “أنا” في الصفحة يُشعرني بعض الشيء بالمرض – ذلك الوعي بالذات مرة أخرى- وكنتُ دومًا أحاول إخفاءه بـ “نحن”. لاحظتُ أن ذلك بدأ يتغير حين وصلتُ أمريكا ثم تزايد ذلك، أنظر الآن إلى الصفحة وأرى العديد من الصياغات التي تتضمن “أنا” أكثر من اتساع مدى والت ويتمان. لكني ما زلتُ أعاني من وجود عائق ذهني حين يتعلق الأمر بالمذكرات واليوميات. تخطر لي نفس الأسئلة الطفولية. لمن هذه؟ ما هو هذا الصوت؟ من هذا الذي أحاول خداعه، نفسي؟

أدركتُ أنني لا أرغب بتسجيل أي يومٍ من أيامي. عقلي هو ذلك النوع من العقول الذي يمحو كل شيء يمضي، مباشرةً تقريبًا، كذاك الكلب المكنسة والجاروف في أليس في بلاد العجائب يكنس الدرب بينما هو يسير. لم أعرف أبدًا في أي تاريخ ما كنتُ أفعله، أو كان عمري حين حدث هذا أو ذلك، وأحب وضعي هكذا. أشعر بأنني حين أشيخُ جدًا و”يتهاوى” عقلي فلن يحس باختلاف كبير عن هذه الحياة التي أعيشها الآن، في مستنقع اللا ذكريات، والتي -رغم أنها تثير حفيظة أحبائي وأعزائي- لابد أنها تناسبني بشكلٍ ما؛ لأنني وكما يبدو أنني لن أغيرها ولو بإرادتي. أتسائل لو كانت مرتبطة بطريقة غير مباشرة بالطريقة التي أكتب فيها رواياتي -التي ولنقل- كأن ممسحة أرجل في شقة سكنتها منذ سنوات ستعاود الظهور كما كانت قبلًا، تلك الممسحة نفسها، نفس الطيات ونفس الأنسجة، ومع ذلك لا أستطيع تحديد الزمن الذي سكنتُ فيه هناك، من كنتُ أواعد أو حتى إذا ما كان والدي على قيد الحياة حينها أو أنه متوفى. ربما كان نظام اللاذكريات الأول من نوعه – النظام الذي لا يسترجع التواريخ ولا الأحداث الفارقة- هو من يسمح لبقية أنظمة الذاكرة في عقلي لتعمل، يفسح غياب الأول للثاني مكانًا ومساحة، يخلي الدرب لما أيًا يكن سيحدث والذي يبدو أنه يثب داخل عقلي كحيوانات ليلة خجولة، جارة معها أشياء غريبة كممسحة أرجل، مهر منفرد ذاوٍ، أو ملصق محبب له شكل الفراولة لم أره منذ 1986، لكنه ما زال يبدو كفراولة وعبق مثلها أيضًا.

حين يتعلق الأمر بكتابة الحياة، الكتابة الحقيقية، الصادقة، كتابة المذكرات، التي تبدو كبثور من كل الأنواع، الكتابة الوحيدة التي كان عليّ أن أعرضها على نفسي -قبل القديس بطرس وغيره أيضًا- هي في بريدي الإلكتروني على موقع ياهو، الذي أنشأته منذ سنة 1996 وما زال فاعلًا حتى الآن. هناك (رغم أنني أفضل الموت على قراءة ما فيه بأكمله) على الأرجح هو أقرب سجل صادق لحياتي، على الأقل كتابيًا. تلك هي أنا بخيري وشري، بكل الأعمال والكذبات القذرة والشجارات المنزلية و الصداقات المبنية على الولع بالكتب و مبيعات الأزياء عبر الإنترنت. كالمعظم (كما يجب عليّ أن أظن) فإن فكرة تجول أحدهم في حسابي ذلك هو كابوس شخصي، يقرأون ما يريدون، ويطلقون الأحكام. في الوقت ذاته لو أراد أطفالي حين أموت أن يعرفوا كيف كنتُ في المشهد الحياتي اليومي، لا ككاتبة، لا كشخص حسن بشكل أو بآخر، لكن ببساطة ككائن بشري أحمق خلف كل هذا، فسيكون من الحكمة أن يبحثوا هناك.

هوامش المترجمة:

(1):كاتب مسرحيات ومؤلف روايات بريطاني.

(2): كاتبة أمريكية في أدب الطفل والناشئة.

(3): روائي وقاص أمريكي.

المتاجرة بالحكايات-جومبا لاهيري (2)

هذا هو الجزء الثاني من مذكرات كتبتها جومبا لاهيري كمقال في مجلة النيويوركر والجزء الأول هنا

في الصف الخامس ربحتُ جائزة صغيرة لقصة عنوانها “مغامرة الميزان”، يصف فيها الراوي مجموعة من الأشخاص والمخلوقات الأخرى التي تزوره. في النهاية كان وزن العالم ثقيلًا جدًا، تحطم الميزان وهُجر في القمامة. رسمتُ للقصة رسومًا توضيحية – كل قصصي حينها كانت مرسومة- وجمعت صفحاتها معًا بخيطٍ برتقالي. عُرض الكتاب لفترة في مكتبة المدرسة، وأُعدت له بطاقة استعارة حقيقة وغلافًا. لم يخرجه أحدٌ من مكانه، لكن ذلك لم يهمني. إن أن مفعول البطاقة والغلاف كانا كافيان. كما تضمنت الجائزة قسيمة شرائية من مكتبة محلية. بقدر ما رغبتُ بامتلاك الكتب كانت الحيرة تحدق بي وتهاجمني. فلساعات -كما بدت حينها- تجولتُ بين أرفف المكتبة. أخيرًا اخترتُ كتابًا لم أسمع به قبلًا لكارل ساندبرغ بعنوان (Rootabaga Stories). أردتُ أن أحب هذه القصص، لكن ظرافتها قديمة الطراز راوغتني. ورغم ذلك أبقيتُ على الكتاب كتميمة -ربما- لذلك التقدير الأول. كالعلامات الموجودة على الكعكات والقوارير التي اكتشفتها أليس تحت الأرض، إذ كانت الهدية الجوهرية في تكريمي أنه تكلم معي بصيغة الأمر للمرة الأولى في حياتي، ذلك الصوت في رأسي قائلًا لي: “افعلي ذلك”.

ببلوغي المراهقة وما بعدها، انكمشت كتاباتي إلى ما بدا أنها نسبة معاكسة لسنوات عمري. رغم أن الدافع الذي لا يُقاوم لخلق القصص لم ينضب إلا أن الشك بالذات بدأ يقوضه، لذا قضيتُ النصف الثاني من طفولتي أنسلخ تدريجيًا من مصدر الراحة الوحيد الذي عرفته، النشاط الذي كان غريزيًا فيما سبق تحول إلى فعلٍ شائكٍ. أقنعتُ نفسي بأن الكتاب المبدعين كانوا أشخاصًا آخرين، ولستُ منهم، ولذا ما أحببته في سن السابعة تحول في سن السابعة عشر مما كان تعبيرًا عن الذات إلى الأكثر إرهابًا وإرعابًا. فضلتُ ممارسة الموسيقى والتمثيل في المسرحيات، متعلمة النوتات الموسيقية لمقطوعة أو مستذكرةً سطورًا من نص مسرحي. ظللتُ أعمل بالكلمات، لكني وجهتُ طاقتي إلى المقالات، راغبةً بأن أكون صحفية. في الجامعة -حيث درستُ الأدب- قررتُ أنني أريد أن أكون بروفسورة في اللغة الإنجليزية. في سن الواحدة والعشرين كانت الكاتبة القابعة في داخلي كذبابة -حية ولكن ضئيلة، بلا غاية- شيءٌ زعزعني منذ اللحظة التي لاحظته، وهو السبب الأهم الذي جعلني وحيدة. لم أكن في مرحلة أحتاج فيها للقلق من رفض الآخرين. كان شعوري بانعدام الأمان شاملًا واستباقيًا، مؤكدًا أنه وقبل أن تسمح الفرصة لأي أحدٍ آخر برفضي، كنتُ أصلًا قد رفضتُ نفسي.

للمعظم من حياتي كنتُ أرغب بأن أكون شخصًا آخر من الآخرين، كانت هذه المعضلة الرئيسية، السبب الذي أؤمن بأنه لاريب لركودي الإبداعي. كنتُ دومًا لا أرقى لتوقعات الآخرين ولا أحققها: والديّ المهاجرين، أقاربي الهنود، أقراني الأمريكان، كلها لم تكن مقدمة على توقعاتي. أرادت الكاتبة بداخلي أن تعدلني وتحررني. إذا أضفنا القليل هنا، أزلنا القليل هنا، على حسب الظروف، وحينها تُزال علامة النجمة -التي تستخدم للتعديل أو الحذف- التي كانت ترافقني عني. كانت تنشئتي – التي جمعت بين نصفي الكرة الأرضية- مبتدعةً ومعقدة، كنتُ أريدها أن تكون تقليدية واحتوائية. كنتُ أريد أن أكون مجهولة وعادية، أن أكون كالآخرين، أن أتصرف كما يتصرف الآخرون. كنتُ أريد أن أتنبأ بمستقبل مختلف، انبثق من ماضٍ مختلف. كان هذا الطُعم لأفعالي ومحركها: الراحة في إلغاء هويتي ومسحها وتبني هوية أخرى. كيف كنتُ أرغب بالكتابة، بلفظ ما هو في باطني في حين أنني كنتُ أتمنى أني لم أكن أنا؟

لم أكن بطبيعتي شخصية حازمة. كنتُ دومًا أتطلع إلى الآخرين طالبةً الإرشاد والمشورة، التأثير، أحيانًا لإشارات حياتية أساسية جدًا. لكن كتابة القصص واحدة من الأفعال الحازمة التي يمكن للواحد أن يفعلها. فالأدب فعلُ تعمد وسبق إصرار، مجهود متأنٍ لإعادة خلق وتصور ما يُرى، لإعادة ترتيب، لإعادة إنشاء واختراع ما هو مفقودٌ في الواقع نفسه. حتى بين أكثر الكُتاب ممانعة وحيرةً و شكًا على هذا الإصرار والعند أن ينبثق. أن تكون كاتبًا يعني أن تثب من منصتٍ إلى قائلٍ: “اسمعني”.

هنا حيث تلعثمتُ، ترددتُ. فضلتُ أن أنصت على أن أتحدث، أن أرى لا أن أُرى. كنتُ خائفة من الاستماع لنفسي، من رؤية حياتي.

افترضت عائلتي أنني سأنال شهادة الدكتوراة. لكن بعد تخرجي من الجامعة، ما عدتُ للمرة الأولى في حياتي طالبة، والنظام الذي عرفته وبنيتُ عليه حياتي إلى حدٍ ما انهار. انتقلتُ إلى بوسطن، مدينة كنتُ أعرفها معرفة مبهمة، وعشتُ في غرفة في منزل يقطنه أشخاصٌ لم يكونوا أقاربي، الذين كان اهتمامهم الوحيد بي هو ما أدفعه ثمنًا للإيجار. وجدتُ وظيفة في مكتبة، أفتح الطرود وأعمل كمحاسبة. أنشأتُ علاقة صداقة مقربة مع شابة كانت تعمل هناك، التي كان والدها شاعرٌ يدعى بيل كوربيتّ. بدأتُ أزور منزل آل كوربيتّ، الذي كان مليءٍ بالكتب والفنون: قصيدة مؤطرة لشيموس هيني، رسمات لفيليب جوستون، نموذج مرسوم لشاهد قبر عزرا باوند. رأيتُ المكتب حيث يكتب بيل، تحجبه المخطوطات، الرسائل، الإثباتات، في قلب غرفة المعيشة. رأيتُ أن العمل الذي يحتل مكانًا على هذا المكتب غير ملزم بأحد، غير مرتبطٍ بأية منشأة، أن هذا المكتب جزيرة وبيل يعمل لوحده. قضيتُ فصل صيف كاملٍ أقطن هناك، أقرأ أعدادًا قديمة من مجلة ذا باريس ريفيو، وحين كنتُ لوحدي في الغرفة المشرقة في الطابق العلوي، أنقر لأطبع مسودات وقطع على الآلة الكاتبة.

بدأت تراودني رغبة في أن أصبح كاتبة. سرًا في بادئ الأمر، بتبادل بضع صفحات مع شخصٍ أو أكثر، إذ أجبرتني لقاءاتنا المجدولة مُسبقًا أن ألتزم وأكتب شيئًا ما. مختلسة المكتب الذي كنتُ أعمل فيه كمساعدة باحث، في ليالي نهاية الأسبوع؛ لأطبع القصص على الكمبيوتر، الجهاز الذي لم أكن أملكه حينها. اشتريتُ نسخةً من الكتاب السنوي (سوق الكُتاب)، وأرسلتُ قصصًا لمجلات صغيرة والتي أعادت القصص لي. في السنة التي تليها التحقتُ ب كلية الدراسات العليا، لا ككاتبة بل كطالبة في الأدب الإنجليزي. لكن وراء إعلان هدفي الدراسي كانت الآن تقبع حيلة. اعتدتُ أن أمر بالمكتبة يوميًا في طريقي إلى محطة القطار، كانت واجهة المكتبة تعرض عددًا من العناوين التي كنتُ أتوقف لأحدق فيها. بين هذه الكتب كانت أعمال ليزلي إيبستاين، الكاتب الذي كنتُ أعرف اسمه لكني لم أقرأ أعماله بعد؛ لكونه رئيس برنامج الكتابة في جامعة بوسطن. سرتُ مرةً ببساطة إلى قسم الكتابة الإبداعية ساعيةً إلى الحصول إلى الإذن لحضور الفصول الدراسية.

كان ذلك جسارة وجرأة مني. المرادفة المناسبة لفعلي منذ حوالي عقدين من الزمن بسرقة الدفاتر من خزانة المعلمة، بتخطي الحد. كان الفصل مخصصًا فقط لطلاب برنامج الكتابة، لذا لم أتوقع أن يوافق إيبستاين على أية استثناء. بعد موافقته عملتُ جاهدة لأنال مقعدًا في البرنامج للسنة المقبلة. حين أخبرتُ والديّ أنني قُبلت بمنحة لم يشجعاني ولم يثبطاني. وكالعديد من جوانب حياتي الامريكية بدت لهما فكرة أن أحدًا سينال شهادة في الكتابة الإبداعية، وكون الكتابة تخصص دراسي رسمي فكرة عبثية. لكن الشهادة تظل شهادة، ولذا ظلت ردة فعلهم على قراري طبيعية. ولو أنني صححتُ لأمي في بادئ الأمر حين أسمت التخصص الكتابة النقدية. أما أبي فأظن أنه تمنى أن يكون لهذا البرنامج علاقة بنيلي درجة الدكتوراة.

كتبتْ أمي القصائد بين الفينة والأخرى. كانت مكتوبة بالبنغالية، وكانت تنشر بين حين وآخر في المجلات الأدبية في نيو إنغلاند أو كالكوتا. بدتْ فخورة بجهودها، لكنها لم تسمي نفسها شاعرة. من ناحية أخرى كان والدها وأخوها الأصغر فنانينّ تشكيلين. كان العالم يعرفهما بسبب نداءاتهما الإبداعية تلك التي وُصفت لي. تحدثتْ أمي عنهما باحترام وتقدير. أخبرتني عن اليوم الذي كان عليّ جدي أن يؤدي امتحانه النهائي في كلية الفنون الحكومية في كالكوتا، وحصل أن أُصيب بحمى. استطاع أن يكمل جزءً فقط من البورتريه الذي طُلب منه أن يقدمه، الفم والذقن للشخص المرسوم فقط، لكنهما رسما باحترافية شديدة إذ أنه تخرج بمرتبة شرف. أُعيدت لوحات جدي المرسومة بالألوان المائية من الهند، أُطرت، وعُرضت للزوار، وحتى هذه اللحظة ما زلتُ أحتفظ بإحدى ميدالياته في صندوق مجوهراتي، مقدرةً إياها منذ الطفولة ومحتفظة بها كتميمة للحظ.

قبيل زياراتنا كالكوتا كانت أمي تقصد متجرًا للأدوات الفنية لتشتري فرشًا وأوراقًا وأقلامًا و أنابيب ألوان طلبها خالي خصيصًا. كسب جدي وخالي قوتهما من العمل كفنانين تشكيلين. أكسباهما فنهما العريق بعض المال. توفي جدي حين كنتُ في الخامسة من عمري، لكن ذكرياتي عن خالي حية ونشطة: يعمل على مكتبه في زاوية الشقة الضيقة المستأجرة حيث نشأت أمي، يجهز اللوحات لحين حضور الزبائن إما ليوافقوا أو ليرفضوا أفكاره، يقضي الليل مستيقظًا لينهي عمله. استنتجتُ أن جدي لم يكن مؤمنًا ماديًا أبدًا، وكان عمل خالي أيضًا متزعزعًا، و أن تكون فنانًا رغم أنه عمل حالم ونبيل إلا أنه ليس عملًا مسؤولًا ولا عمليًا لتمارسه.

كانت الموازيين وساعات اليد والأيتام المهجورين هي محور مواضيعي في الطفولة. كنتُ أكتب كطفلة لأتصل بأقراني. لكن حين عاودتُ الكتابة في العشرين من عمري كان والدايّ هما الشخصان اللذان أعاني للوصول إليهما. سنة 1992 وقبل أن بدئي لبرنامج الكتابة في جامعة بوسطن سافرتُ إلى كالكوتا مع عائلتي. أتذكر عودتي من السفر في نهاية الصيف، التسلل إلى السرير والبدء مباشرة بكتابة أولى القصص التي قدمتها تلك السنة في الورشة. كانت تدور أحداثها في العمارة التي نشأت فيها أمي، وحيث قضيتُ معظم الوقت حين زيارتي للهند. أدرك الآن أن ما حفزني حينها لكتابة هذه القصة، والقصص المشابهة التي تلتها كان لأثبت لوالدي شيئًا: أنني أفهم، بمصطلحاتي أنا، وبمفرداتي أنا، بشكل محدود لكنه دقيق العالم الذي انحدرا منه. فرغم أنهما أنجباني، ربياني، وعاشا معي يومًا تلو يوم إلا أنني كنتُ أعرف أنني غريبة بالنسبة لهما، طفلة أمريكية. مع أننا كنّا متقاربين إلا أنني خشيتُ أنني كنتُ غريبة. كان هذا الهاجس المسيطر عليّ والذي أحسسته بينما كنتُ أكبر يومًا بيوم.

كنتُ الطفل الأول لوالديّ. حين بلغتُ السابعة حملتْ أمي مرة أخرى، وأنجبت أختي في شهر نوفمبر من سنة 1974. لاحقًا بعد عدة أشهر عرفتُ أن إحدى صديقاتها في رود آيلاند، امرأة بنغالية أخرى كانت على وشك أن تلد. عمل زوج تلك المرأة كوالدي في الجامعة. بناءً على نصيحة أمي راجعتْ صديقتها نفس طبيبها وقررتْ أن تلد في نفس المستشفى. في مساء ماطر تلقى والدايّ مكالمة من المستشفى. بكى زوج المرأة على الهاتف وهو يخبر والدايّ أن طفلهما ولد ميتًا. لا سبب لذلك. حدث ذلك ببساطة كما حدث هكذا أحيانًا. أتذكر الأسابيع التي تلت تلك الليلة كانت أمي تطهو الطعام وتحمله إلى الزوجين، كان الحزن يقبع في المنزل آخذًا المكان الطفل الذي كان يُفترض أن يملئ عليهما المنزل بوجوده. إذا كانت الكتابة ردة فعل في وجه الظلم، أو بحثًا عن المعنى حين يُسلب المعنى، فهذا ما كانته تجربتي الأولية تلك. أتذكرني أفكر بأن ذلك كان يمكن أن يصيب والدايّ لا أصدقائهما، وأتذكر لأن الشيء نفسه لم يصب عائلتي شعوري أيضًا بالعار من وجود أختي التي كانت قد بلغت أصلًا من العمر سنة. لكني شعرتُ جوهريًا بالظلم، الظلم الذي أحاق بتوقع الزوجين وانتظارهما، عدم إدراك ما ابتغياه.

انتقلنا إلى منزل جديد، أشرفنا على بناءه في حيٍ جديد. لاحقًا سرعان ما انتقل الزوجين الأبترين إلى منزل جديد بنياه في حينا أيضًا. وظفا نفس المقاول، واستخدما نفس المواد، نفس توزيع الأدوار، أي أن المنزلين كانا متطابقين تمامًا. لاحظ بقية الأطفال في الحي الذين كانوا يعبرون على دراجتهم وبأحذية التزلج هذا التشابه وعدوه غريبًا. سُئلت إذا كان كل الهنود يعيشون في منازل متطابقة. امتعضتُ من هؤلاء الأطفال لعدم معرفتهم بما أعرفه عما أصاب هذان الزوجان، وفي نفس الوقت امتعضتُ من الزوجين قليلًا لأنهما قلدا منزلنا، لاقتراحهما بأن حيواتنا كانت متماثلة بينما لم تكن. لاحقًا بعد سنوات بيع المنزل، انتقل الزوجان إلى بلدة أخرى، واستبدلت عائلة أمريكية واجهة المبنى ولم تعد نسخة طبق الأصل من منزلنا. ونسي أطفال الحي التشابه الفكاهي بين عائلتين بنغالية في حي رود آيلاند. لكن حيواتنا لم تكن متوازية ولا متماثلة، ولم أقدر على نسيان هذا.

حين كنتُ في الثلاثين من عمري أحفر في أعماق تربة مفككة لأبني قصة جديدة، نبشتُ ذلك الزمن من ذاكرتي، وكانت تلك الحادثة الشيء الأشد مأساوية حسب ما أذكر، وكتبت عنه قصة بعنوان “مسألة وقت”. لم تكن تلك القصة المطابقة لما حدث للزوجين، ولم تكن أيضًا قصة شيءٍ حدث لي. كنتُ أنبثق من طفولتي وأثب منها، من بعضي ذلك الذي كان يعود ببطء إلى ما أحببته حبًا جمًا حين كنتُ أصغر سنًا، كانت تلك أول قصة كتبتها كبالغة.

كان والدي الذي حتى حين بلغ الثمانين من عمره يعمل لمدة أربعين ساعة أسبوعيًا في جامعة رود آيلاند يسعى دومًا للأمان والاستقرار في وظيفته. لم يكن راتبه أبدًا ضخمًا، لكنه كفى عائلته دون مقابل. حين كنتُ طفلة لم أكن أعلم المعنى الحقيقي لكلمة ” التثبيت في العمل”، لكن حين ناله والدي شعرتُ بما كانت تعنيه له. خططتُ أن أفعل ما فعله، وأن أمارس مهنة تمنحني ذات الاستقرار وذات الأمان. لكني في آخر لحظة تراجعتُ؛ لأنني أردت أن أصبح كاتبة بدلًا عن ذلك. كان الانسحاب والتراجع هو الجوهري في الأمر، وهو المحفوف والمترع بالمجهول. وحتى بعد أن نلتُ جائزة البوليتزر ذكرني أبي بأن كتابة القصص شيءٌ لا يُعتمد عليه وغير مضمون، وأن عليّ دومًا أن أجهز نفسي لنيل لقمة عيشي من عمل آخر. أنصتُ له، ولكني تعلمتُ أيضًا ألا أفعل، أن أتجول حتى حافة الجرف وأقفز. ولذا ورغم أن مهمة الكاتب هي أن يرى ويسمع ليصبح كاتبًا، إلا أنه كان عليّ أن أكون صماء وعمياء.

أدرك الآن أن أبي -رغم كل العملية التي يتصف بها- انجذب نحو هاويته هو، تاركًا وطنه وعائلته، سالخًا نفسه من الانتماء المطمئن. كردة فعل على ذلك رغبتُ معظم حياتي أن أنتمي لمكان ما، إما المكان الذي انحدر منه والدايّ أو لأمريكا، التي كانت تتوسع أمام أعيننا. حين أصبحتُ كاتبةً أصبح مكتبي وطني، لم أعد بحاجة إلى أي مكان آخر. كل قصة هي إقليم أجنبي، والذي خلال عملية الكتابة يُحتل ثم يُهجر. أنتمي لعملي، لشخصياتي، ولأخلق شخصيات أخرى جديدة أخلف ورائي تلك الأقدم. رفض والدايّ للتخلي أو للانتماء الكلي لمكان آخر هو جوهر ما أحاول أنا أدبيًا تحقيقه بالكتابة. رفضي للتخلي والتجاوز مولودٌ من انعدام قدرتي على الانتماء.

المصدر

المتاجرة بالحكايات -جومبا لا هيري (1)

الكاتبة في حوالي الثالثة من عمرها

كانت الكتب والحكايات التي تضمها بين جنباتها الشيء الوحيد الذي كنتُ قادرةً على امتلاكه كطفل. حتى عندئذٍ لم يكن الامتلاك والحيازة بمعناها الحرفي، والدي مكتبي، وربما لأنه آمن بالملكية الجماعية، أو لربما لأن والدايّ اعتبرا شراء الكتب لي تبذيرًا، أو لربما لأن الناس عامةً امتلكت أغراضًا أقل مما يفعلون اليوم، لم أملك تقريبًا أي كتب لأسميها كتبي. أتذكر رغبتي وطمعي بامتلاك كتاب وأخيرًا السماح لي للمرة الأولى في حياتي. كنتُ في الخامسة أو السادسة من عمري. كان الكتاب مُصغرًا، حجمه حوالي خمسة وعشرين سم مربع، وكان عنوانه “لن تحتاج أبدًا للبحث عن أصدقاء”. كان يعيش بين الحلوى التي تُشترى بقروش وملصقات مغلفات واكي (1) في المتجر العام عتيق التصميم في الشارع المقابل لمنزلنا الأول في ولاية رود آيلاند. كانت الحبكة تافهة، إذ كانت أقرب لكونها بطاقة ترحيبية مطولة من حكاية. لكني أتذكر حماس رؤية أمي تشتريه لي وتحمله إلى المنزل. داخل صفحة الغلاف، أسفل سطر الإهداء “هذا الكتاب تحديدًا لـ” وُجد سطر لكتابة اسمي. كتبته أمي، وكتبت كذلك كلمة “أم” لتشير إلى أنه هدية منها، رغم أنني لا أناديها أمي لكن ما. كانت كلمة “أم” تعني وصيًا آخر. لكنها منحتني كتابًا ظل يقطن -لحوالي أربعين سنة بعد ذلك اليوم- في مكتبة في غرفة طفولتي.

كان منزلنا مجردًا من كتب لتُقرأ، لكن المقترحات بدت شحيحة، وكان اهتمامي بها ضعيفًا. كانت هناك كتب عن الصين وروسيا قرأها أبي لدراسته الجامعية في تخصص العلوم السياسة، و أعدادٌ من مجلة التايم قرأها للاسترخاء والاستمتاع. امتلكت أمي روايات ومجموعات للقصص القصيرة و أكوامًا من المجلات الأدبية التي كانت تُسمى دِش، لكنها كانت بالبنغالية، حتى العناوين كانت غير مقروءة بالنسبة لي. أبقت موادها القرائية على رفوف معدنية في القبو، أو بجانب سريرها كاستثناء. أتذكر مجلدًا شعريًا أصفر للشاعر القاضي نذر إسلام، الذي بدا كنص مقدسٍ بالنسبة لها، ومعجم إنجليزي سميك مغلف بغلاف كستنائي اللون قُطع من المعجم لحين لعب السكرابل. في فترة ما اشترينا المجلدات الأولى القليلة من مجموعة من الموسوعات من مركز التسوق حيث كنا نتسوق يروج لها، لكننا لن نشتري أبدًا المجلدات كاملة. كان في منزلنا كتب اعتباطية جودتها منخفضة، كما لو أنها وجدت هناك لتأكد الجوانب الأخرى لحيواتنا المادية. تعطشتُ شوقًا للنقيض: منزل حيث للكتب وجود ثابت صلب، مكومة على كل سطح ومصفوفة على الحائط بسرور. أحيانًا بدت جهود عائلتي لملئ المنزل بالكتب مُحبَطة، كان هذا حين تسلق والدي الأغصان و الفروع ليعلق رفوفًا من خشب الزيتون. خلال أيام انهارت الرفوف، لم تقدر جدران الألواح الجبسة المصنوعة في عصر استعمارنا الحساس احتمالها.

كان ما سعيتُ إليه حقًا هو طريق و أثر أفضل من حياة والديّ الثقافية: دليلٌ مجلد و مطبوع على ما قرآه، ما ألهمهما وشكل عقليهما. رابطةٌ بالكتب بينهم وبيني. لكن والدايّ لم يقرآ لي أو يحكيان لي قصصًا، لم يقرأ والدي أي عملٍ أدبي، و الحكايا التي أحبتها أمي في شبابها حين كانت في كالكوتا لم تحكها لي. كانت أول تجربة لي بسماع القصص مقروءة بصوتٍ عالٍ هي المرة الوحيدة التي قابلتُ فيها جدي لأمي، حين كنتُ في الثانية من عمري، خلال زيارتي الأولى إلى الهند. كان يستلقي على ظهره في سريره ويرفعني إلى أعلى صدره ويبتكر أمورٌ ليحكي لي. أخبروني بأننا الإثنين بقينا مستيقظين لوقتٍ طويل بعد أن خلد الجميع إلى النوم، وأن جدي ظل يطيل هذه القصص؛ لأنني أصررتُ أنها لا تنتهي.

كانت البنغالية لغتي الأولى، اللغة التي تحدثتُ بها وسمعتها في المنزل. لكن كتب طفولتي كانت بالإنجليزية، وكانت مواضيعها في معظمها إما عن الحيوات الإنجليزية أو الأمريكية. كنتُ أعي شعوري بالانتهاك وتجاوز الحد. كنتُ أعي شعوري بأني لا أنتمي لهذا العالم الذي أقرأ عنه: أن حياة عائلتي كانت مختلفة، أن طعامًا مختلفًا كان يزين مائدتنا، أن عطلات ومناسبات مختلفة تلك التي كنا نحتفل بها، أن عائلتي كانت تهتم وتقلق على شؤون مختلفة، وأنني طالما كنت أقرأ ذلك لم يكن الأمر مهمًا. انخرطتُ في علاقة نقية مع القصة وشخصياتها، واجهتُ العوالم الخيالية كما لو أنها موجودة فيزيائيًا، ساكنةً فيها بكلي، مغمورة فيها حالًا ومتخفية.

في الحياة وخصوصًا كفتاة شابة خشيتُ المشاركة في النشاطات الاجتماعية. قلقتُ مما لربما يفعله بي الآخرون، من الطريقة التي لربما حكم علي بها. لكني حين كنتُ أقرأ كنتُ أتحرر من هذا القلق. عرفتُ ما يأكله رفاقي الخياليون وما يرتدون، عرفتُ كيف يتحدثون، عرفتُ كيف تتبعثر ألعابهم في غرفهم، كيف يجلسون قرب المدفأة في الأيام الباردة يشربون الشكولاتة الساخنة. عرفتُ عن إجازاتهم، التوت الأزرق الذي قطفوه، المربى الذي حركت أمهاتهم خليطه على الموقد. كانت القراءة بالنسبة لي فعل اكتشافٍ بمعناه الأساسي الحقيقي: اكتشاف الثقافة التي كانت أجنبية بالنسبة لوالديّ. بدأتُ أجابههم بهذه الطريقة، وأفهم من الكتب أشياءً محددة لا يعرفونها. كانت أيٌ كتبٌ تدخل المنزل على حسابي جزءً من نطاقي الخاص. ولذلك لم أشعر فقط بأنني أتجاوز الحد لكني أيضًا بمعنى ما كنتُ أخون اللذان كانا يربيانني.

حين بدأتُ أحظى بأصدقاء، كانت الكتابة أداتي. لذا كانت الكتابة في البدايات كالقراءة ليست ممارسة ذاتية أكثر من كونها محاولة للتواصل مع الآخرين. لم أكتب لوحدي لكن مع طالب آخر في فصلي المدرسي. كنّا نجلس سويًا، هذا الصديق وأنا، نحلم بالشخصيات والحبكات، متبادلين الأدوار في كتابة أجزاء من القصة، منقلين الصفحات بيننا. كانت خطوطنا هي الفرق الوحيد بيننا، الطريقة الوحيدة لمعرفة كاتب كل جزء. كنتُ دومًا أفضل الأيام الممطرة على تلك التي تسطع فيها الشمس؛ لنقدر على الجلوس في الداخل في الاستراحات، نجلس في الممرات ونركز. لكن حتى في الأيام لطيفة الطقس كنتُ أجد مكانًا لأجلس فيه، أسفل شجرة أو على حافة حوض الرمل في ساحة الألعاب، بصحبة هذا الصديق، وأحيانًا رفقة صديق آخر أو اثنين، لنستكمل العمل على حكايتنا. كانت القصص إيجازًا واضحًا وجليًا لما كنتُ أقرأه حينها: عوائل تعيش في المروج، فتيات يتيمات أرسلنا إلى مدارس خارج البلاد أو درستهن مربيات صارمات، أطفال بقدرات خارقة، أو القدرة على الاندساس خلسة في عوالم بديلة عبر الخزائن. كانت القراءة مرآتي ومادتي، لم أرَ أي جزء آخر من ذاتي.

دفعني حبي للكتابة للسرقة في عمر مبكرٍ. كالألماس الموجود في المتحف كانت الدفاتر الفارغة الصفحات الموجودة في خزانة أدوات معلمي التي خططتُ وخرقتُ القوانين لامتلاكها، مكومة في صفوف مرتبة، موزعة لأجلنا لنكتب فيها جملٍ أو تدريبات مادة الرياضيات. كانت الدفاتر نحيلة، مثبتة ببعضها البعض، رتيبة، إما باللون الأزرق الفاتح أو بالأصفر المائل للبني. كانت الصفحات مسطرة، ليست بالحجم الصغير جدًا ولا بالكبير جدًا. رغبةً بهم لكتابة قصصي، انهمكتُ جاهدةً لطلب واحدٍ أو اثنين من المعلم. ثم وبمعرفة أن الخزانة ليست دائمة مقفلة أو مراقبة، بدأتُ بمساعدة نفسي بالحصول على المؤونة المثمرة.

الهوامش:

(1): سلسلة من البطاقات والملصقات الكوميدية تبرز محاكاة هزلية للمنتجات الاستهلاكية في أمريكا الجنوبية.

المقال بالإنجليزية