فراش من حصى- مارغريت آتوود (قصة قصيرة)

نُشرت هذه القصة بتاريخ 19/12/2011 في مجلة النيويوركر

في البدء لم تنوي فيرنا قتل أحد. كان في بالها تصور لإجازة، خالصة وبسيطة. أن تحظى بإجازة، تجري بعض الحسابات الداخلية، تغير جلدها. يناسبها الجو القطبي: هناك أمرٌ جوهري مريحٌ في الامتدادات الشاسعة الباردة للثلج والصخور والبحر والسماء، دون إزعاج المدن والطرق السريعة والأشجار وغيرها من المشتتات التي تزاحم المناظر الطبيعية في الجنوب وتملئها بالفوضى.

تضمن من بين المشتتات والفوضى المقلقة الآخرين، وتقصد بالآخرين الرجال. اكتفتَ من الرجال لبرهة. أعلنت بيانًا في داخلها للتخلي عن أي غزل وأي آثار لربما تنتج عنه. لا تحتاج المال، ليس بعد الآن. هي ليست مبذرة أو طماعة، تقول لنفسها: كل ما رغبتْ به يومًا هو أن تُحمى بطبقة تلو طبقة من المال الحنون، الرقيق، العازل، حتى لا يقترب أي أحد أو أي شيء قربًا كافيًا ليؤذيها. حققتْ بلا ريب هذا الهدف المتواضع على الأقل.

لكن العادات القديمة لا تندثر بسهولة، ولن يمر وقتٌ طويل قبل أن تلقي بعينيها نظرة تقدير على المسافرين رفاقها المتشحين بالصوف المترددين بحقائبهم ذات العجلات أول ليلة سيقضونها في بهو فندق المطار. متجاوزة النساء تترصد بأذنيها الأفراد الرجال في الحشد. بعضهم يسير بجانبه امرأة مرفقة به، وهي تستبعد هؤلاء وفقًا لمبدأ: لِم بذل جهدٍ أكبر حين لا تحتاجه؟ فالتحديق بزوج ماجن يمكن أن يكون عسيرًا، كما اكتشفت ذلك من خلال زوجها الأول: تنغرز الزوجات المهملات كشوكة في الحلق.

الوحيدون المنعزلون هم من يثيرون اهتمامها، المتخفون القابعون في الهامش. بعضهم مسنٌ جدًا لغرضها، تتجنب أي تواصل بصريٍ معهم. أولئك الذين يقدرون الاعتقاد القائل بأن الحياة ما زالت موجودة في المسنين: هؤلاء هم لعبتها لا يعني ذلك أنها ستفعل أي شيء بخصوص ذلك -تقول لنفسها- لكن لا خطأ في بعضٍ من تمارين الإحماء، إذا ما كانت لتثبت فقط لنفسها أنها ما زالت قادرة على التخلص من أي أحد إذا ما شاءت ذلك.

اختارت أن ترتدي لليلة التحايا والتعارف تلك كنزتها الكريمية اللون، تجثم بطاقة العلامة التجارية المعدنية  أسفل الجهة اليسرى من صدرها قليلًا. بفضل التمارين المائية و تمارين القوة مازالت تتمتع بقوام رائع بالنسبة لعمرها، أو لأي عمر ببساطة، على الأقل حين تكون بكامل ملابسها ومدعمة بملابس داخلية تناسب جسدها بدقة. لم تكن ترغب بفرصة للجلوس على كرسي استرخاء بملابس السباحة -البيكيني- لئلا تظهر تجعدات جسدها السطحية، وهو أحد الأسباب الذي دفعها لاختيار منطقة قطبية -لنقل- منطقة الكاريبي. وجهها هو نفسه، وهو طبعًا أفضل ما يمكن للمال شراؤه في هذه المرحلة العمرية، بالإضافة طبعًا لقليل من الكريم المسمر و ظل العيون الباهت و الماسكرا وبودرة للتلميع وإضاءة قليلة للبشرة، يمكنها ببراعة أن تُصبح أصغر بعشر سنوات من عمرها.

“رغم أن الكثير اُخذ، إلا أن الكثير باقٍ” همهمت لصورتها في المرآة. كان زوجها الثالث غريب الأطوار متسلسل الاقتباسات بولعٍ مميز بتينيسون. “تعالي إلى الحديقة يا ماود” كانت عادته قول هذه الجملة قبل موعد النوم. كانت هذه الجملة تدفعها إلى الجنون آنذاك.

كانت تعطرت بمسحة من الكولونيا – رائحة ضعيفة، ورود، حنين- ثم نشفتها، تاركة نفحة صغيرة. من الخطأ فعل ذلك: رغم أن أنوف المسنين ما عادت حادة كما كانت، لكن ذلك خيرٌ من إثارة الحساسية، رجل كثير العطاس ليس رجلًا جذابًا.

جعلت دخولها متأخرًا، مبتسمة ابتسامة منفصلة لكن مرحة – لا تبتسمها امرأة ليس برفقتها أحد لئلا تبدو متحمسة ومتلهفة- تقبل كأسً من النبيذ الأبيض المقبول الذي يوزعونه، ثم تنعطف بين جموع القاضمين والراشفين. سيكون الرجال مهنيون متقاعدون: أطباء، محامون، مهندسون، سماسرة بورصة، مهتمون بالاكتشافات القطبية، بالدببة القطبية، بالآثار، بالطيور، بحرف شعب الإينويت(1)، بل وربما حتى بالفاكينق أو بالحياة الفطرية أو بالجغرافيا. يجذب الحقل المغناطيسي في القطب الشمالي المقامرين الجادين، بثلة جادة من الخبراء المتمركزين لجمعهم حولهم وإلقاء محاضرات عليهم. تحققت من اثنين آخرين يتجولان ببذلتيهما في المكان، لكنهما غير جذابان. أحدهما يستعرض بنزهات خطيرة على الأقدام ويجذب من هم أصغر من الخمسينات – وهو ليس ضمن أهدافها- والآخر يغني ويرتدي ملابس سخيفة، لذا يتبقى لها أولئك المهتمون بالحقل المغناطيسي في الشمال، والذي سيمنحها ارتياح المعرفة. سافرت ضمن رحلات هذه الشركة مرة واحدة، بعد موت زوجها الثالث، منذ خمس سنوات؛ لذا هي تدرك غالبًا ما عليها أن تتوقعه.

الغرفة ممتلئة بالملابس الرياضية، اللون البيج مُنتشر جدًا بين الرجال، العدد من القمصان المنقوشة، الستر متعددة الجيوب. تلاحظ بطاقات الأسماء: فريد، دان، ريك، نورم، بوب. بوب آخر، ثم آخر أيضًا، هناك الكثير ممن اسمهم بوب في هذه الرحلة. يبدو عددٌ منهم مسافرين لوحدهم.

بوب: اسم ذو أهمية وثقل لها، رغم أنها بالطبع تخلصت بنفسها من ذلك الحمل الآن. تختار أحد الأشخاص الذين يسمون بوب: الأنحف لكن الأغنى، تنسل مقتربة منه، ترفع جفونها، وتخفضها مرة أخرى. يحدق إلى صدرها.

“فيرنا” يقول. “اسم لطيف”.

“قديم الطراز” تقول. “أصله يعود إلى الكلمة اللاتينية “يزهر”. “حين يزهر كل شيء ويحيا مرة أخرى”. هذه الجملة -المنطوية على وعودٍ جمة بالتجدد القضيبي-كانت فعالة جدًا في مساعدتها لتأمين زوجها الثاني. أما زوجها الثالث فقالت له أن أمها كانت متأثرة بشاعر القرن الثامن عشر الإسكوتلندي جيمس ثومسون و نسمات ربيعه، كانت كذبة خرقاء لكنها ممتعة: لقد سُميت في الحقيقة تيمنًا بخالة ميتة متكتلة، بوجه يشبه الكعكة. كانت أمها مشيخية متعصبة بفمٍ ككماشة معدنية سريعة القبض، التي احتقرتْ الشعر و من المستحيل أن تتأثر بأي شيء أرق من جدار غرانيت.

 خلال المراحل التمهيدية لنسج شباكها حول زوجها الرابع، التي وسمته بأنه مدمن عُقد، تجاوزت معه فيرنا الحد كثيرًا. إذ أخبرته بأنها سُميت تمينًا بـمعزوفة “قدسية الربيع”، وهي عرض باليه جنسي جدًا انتهى بالعذاب والتضحية البشرية. ضحك، لكنه أيضًا تلوى: علامة مؤكدة على أن التقم الطعم.

تقول الآن: “وأنت … بوب”. احتاجت سنواتٍ لتتقن الهمسة قصيرة النفس، المضمونة الجاذبية.

“نعم” يقول بوب. “بوب غورهام” يضيف، باختلاف ينوي به طبعًا أن يكون جذابًا. تبتسم فيرنا ابتسامة عريضة لتستر صدمتها. تجد أن خديها يتوردان بخليط من الغضب والمرح الطائش. تنظر إليه بوجهها كاملًا: نعم، تحت الشعر الخفيف والتجاعيد والأسنان المبيضة كما هو واضح والمحتمل أنها مزروعة بوب نفسه، بوب البالغ من العمر خمسين سنة من الغرابة. السيد ميرتثهورب، السيد نجم كرة القدم المحترف، السيد المدرب المذهل، الذي يقود سيارة الكاديلاك الباهظة، ويقطن في طرف البلدة حيث يسكن كبار موظفي شركة التنجيم. السيد خراء، بوضعية بطنه البارزة وضحكته ضحكة الجوكر المنحرفة.

كم كان مدهشًا حينها للجميع – ليس الجميع في المدرسة فقط، بل الجميع في ذلك الجزء الكريه من البلدة الذين عرفوا كل ميلتر لمن شرب ولمن لم يشرب ومن لم يفترض به أن يكون أفضل منها وكم من التغيرات أخفيتها في جيبك الخلفي- كم كان رائعًا ذلك الفتى الذهبي بوب الذي أبرز فيرنا التافهة كملكة الثلج في حفل الشتاء الرسمي. فيرنا الجميلة التي كانت أصغر منه بثلاث سنوات، مواظبة وجادة، متجاوزة الفصول الدراسية، فرينا البريئة، مُتساهلة لكن غير مشمولة، تنبش بمخالبها طريقها نحو المنحة كتذكرة للخروج من بلدتها. فرينا الساذجة، التي اعتقدتْ و صدقتْ بأنها كانت واقعة في الغرام.

أو كانت واقعة في الحب. حين يتعلق الأمر بالحب أليس الاعتقاد والتصديق كالحقيقة؟ اعتقادات كهذه تستنزف قوتك و تشوش رؤيتك. لم تكن لتسمح لنفسها أبدًا أن تكوى بنفس الفخ مرة أخرى.

ما الأغنية التي رقصا عليها تلك الليلة؟ (Rock Around the Clock). .(Hearts Made of Stone)(.(The Great Pretenderاقتاد بوب فيرنا حول أطراف النادي، ممسكًا بها بعنف قبالة القرنفل المثبت في عروة سترته، بالنسبة لفيرنا الساذجة غريبة الأطوار لم تذهب إلى حفلٍ راقص قبلًا ولم يكن هناك شبيهٌ لتحركات بوب العويصة و المنمقة. كانت الحياة لفيرنا الخانعة تتمحور حول الكنيسة والدراسة و أعمال المنزل الروتينية و وظيفتها في نهاية الأسبوع كبائعة في الصيدلية، بصحبة والدتها متجهمة الوجه المسيطرة على كل حركة. لا مواعيد غرامية، لم يكن ذلك مسموحٌ به، لا يعني ذلك أن أحدًا دعاها لأي موعد. لكن والدتها أجازت لها الذهاب إلى الحفل الراقص للثانوية الذي يُشرف عليه ويراقب جيدًا برفقة بوب غورهام، ألم يكن نجمًا لامعًا من عائلة محترمة؟ بل إنها سمحت لنفسها حتى بمسحة من الرضا المبتهج، بالرغم من أنه كان صامتًا ومبطنًا. رافعةً رأسها عالية بعد ارتحال والد فيرنا جعلها تعمل بوظيفة بدوام كامل، مما منحها عندًا شديدًا وقسوة. من تلك المسافة استطاعت فيرنا فهم ذلك.

إذًا خطت فيرنا خارج الباب، بعينين حالمتين تقدس البطل المغوار، تتهادى بأول حذاء بكعب ترتديه. كانت مهتمة بكياسة بسيارة بوب المكشوف الحمراء اللامعة بقارورة مشروب الميكي الخائن لشراب الشعير المخبأة مسبقًا في درج السيارة، حيث جلستْ معتدلة، متصلبة من الخجل، تفوح منها رائحة شامبو بريل و كريمجريجنز، ملتحفة بدثار أمها الصوفي قديم الطراز الذي تفوح منها رائحة النفتالين والفستان الحريري ذو اللون الأزرق السماوي الذي بدا رخيصًا كما كان فعلًا.

رخيصة. رخيصة و تُستعمل لمرة واحدة. استخدم و تخلص. هذا كان ما اعتقده بشأنها، منذ البداية. يبتسم بوب الآن ابتسامة عريضة بعض الشيء. يبدو راضٍ عن نفسه: ربما يظن أن فيرنا تتورد راغبةً. لكنه لا يميزها! لا يميزها حقًا! كم فيرنا يمكن أنه قابل في حياته؟

سيطري على نفسك، تقول لنفسها. هي ليستْ منيعة في نهاية المطاف، يظهر ذلك. ترتعش بالغضب، أو هو التنسك؟ لتغطي على نفسها تشرب جرعة من خمرها، وتغص به مباشرةً. ينبثق بوب بالتصرف، ضارباً إياها على ظهرها ضربات سريعة لكن لطيفة.

“المعذرة”، استطاعت أن تلفظ لاهثة. تطوقها رائحة القرنفل النضرة، الباردة. تحتاج الابتعاد عنه، فجأة ومن حيث لا تعلم تشعر بالغثيان. تهرع إلى حمام السيدات، الشاغر لسعادة حظها، تتقيأ نبيذها الأبيض والجبنة الكريميةو مقبلات الزيتون في مرحاض مفصول في حجرة. تتساءل إذا ما كان فات الأوان لتلغي الرحلة. لكن لِم عليها أن تهرب من بوب مرة أخرى؟

آنذاك لم تملك أي خيار. بنهاية ذلك الأسبوع كانت القصة انتشرت في كل ناحية من البلدة. بوب نشرها بنفسه برواية مضحكة مختلفة عن ما تتذكره فيرنا ذاتها. فيرنا الطائعة، الفاسقة، المخمورة، يا لها من نكتة. لحقها من المدرسة للبيت مجموعة من الأولاد المحدقين بها شبقًا، ينعقون ويصرخون عليها قائلين: سهلة المنال! هل يمكنني أن أحظى بامتطائك؟ بالكحول تُغوى وتعطي ما لديها! كانت هذه بعضًا من الشعارات المعتدلة التي قيلت. تحاشتها الفتيات وتهربن منها، خوفًا من الخزي – البذيء السخيف، المضحك أصلًا- أن يطالهن.

ثم كان دور الأم. لم يطل الوقت قبل أن تبلغ الشائعات جماعات الكنيسة. ما كان على أمها أن تقوله من خلال فمها المشدود بإحكام كلام مباشر: اختارت فيرنا مكانها، وعليها الآن أن تبقى فيه. لا، لم يكن لها أن تتمرغ في الشفقة على الذات، كان عليها أن تواجه الأمر، ليس بمعنى أنها ستنسى ذلك الإحراج؛ لأن خطوة واحدة خاطئة تخطوها وستتعثر، هكذا كانت الحياة. حين اتضح أن الأسوأ حدث، اشترت لفيرنا تذكرة حافلة وأرسلتها بعيدًا إلى ملجأ تابع لكنيسة هو مأوى للأمهات العازبات على أطراف تورنتو.

قضت فيرنا الأيام هناك تقشر البطاطس و تفرك الأرضيات و تنظف الحمامات جنبًا إلى جنب مع زميلاتها المذنبات. كنّا يرتدين فساتين حمل رمادية وجوارب صوفية رمادية و أحذية بنية ثقيلة، كلها تُشترى بالتبرعات السخية، كما كانوا يقولون لهن. بالإضافة لأعمالهن الروتينية من تقشير وتنظيف، كنا يعالجنّ بنوبات من الصلاة وتوبيخ لإصلاح الذات.

كان ما حصل لهن مُستحق استحقاقًا مبررًا كما تقول الخطابات؛ بسبب سلوكهن المنحرف، لكن لم يكن أوان التوبة قد فات أبدًا بالعمل الشاق وكبح جماح النفس. حُذرنّ من الكحول، تدخين التبغ، مضغ العلكة، وأخبرنّ بأن عليهن أن يعتبرن رغبة أي رجل محترم بهن لو حصلت هي معجزة من الإله.

كان عمل فيرنا طويلًا وصعبًا. أُخذ الطفل منها مباشرةً لئلا تتعلق به. أُصيبت بعدوى، ومضاعفات وندبة، لكن ذلك كله كان خيرًا للجميع، سمعتْ مصادفةً إحدى الممرضات النشيطات تقول لأخرى ذلك،؛ لأن هؤلاء الفتيات غير مناسبات ليكونّ أمهات على أية حال. حال استطاعت أن تسير على قدميها أُعطيت خمس دولارات وتذكرة حافلة وأُمرت أن تعود إلى رعاية أمها وحضانتها؛ لأنها كانت ما تزال قاصر.

لكنها ما كانت لتقدر على مواجهة ذلك، -لا ذلك ولا البلدة بالعموم- لذا اتجهت إلى قلب مدينة تورنتو. ما الذي كانت تفكر به؟ لا أفكار محددة حقيقية، خليطٌ من مشاعر فقط: بؤس، أسف وحسرة، وأخيرًا شرارة من غضبٍ جريء متحدٍ. لو كانت تافهة وحقيرة كما يبدو أن الجميع يعتقد، فلربما عليها أن تتصرف هكذا، وبين مناوبات عملها كنادلة ومُنظفة لغرف الفندق فعلت ذلك.

لم يكن سوى بفعل الحظ الطيب العظيم أن تعثرت برجل متزوج كان مهتمًا بها. قايضت ثلاث سنوات من ممارسة الجنس معه في وقت الظهيرة مقابل ثمن تعليمها. مقايضة عادلة هكذا كانت في عقلها، لم تضمر له أي ضغينة. تعلمتْ الكثير منه: كيف تسير بالحذاء ذو الكعب وهو أقل شيء، ثم سحبت نفسها خارج ذلك. شيئًا فشيء تخلصت من صورة بوب المحطمة التي ظلت تحملها كوردة مجففة -بصورة لا تُصدق- قريبًا من قلبها.

ربتت على وجهها مرة أخرى لتعيده كما كان و عدلت الماسكرا، التي ذابت على وجنتيها بغض النظر عن الادعاءات التي تقول أنها مضادة للماء. الشجاعة، قالت لنفسها. لن تهرب، ليست هذه المرة. ستكون عنيدة صلبة، فهي الآن أكثر من مجرد ند لخمسة أشخاص يحملون اسم بوب. ولها الأفضلية والسبق؛ لأن بوب لم يملك أدنى دليل على هويتها. هل تبدو مختلفة حقًا لهذه الدرجة؟ نعم، هي كذلك. تبدو أفضل. هناك شعره الأشقر الرمادي، والكثير من التغيرات الأخرى طبعًا. لكن الاختلاف الحقيقي هو السلوك: الثقة التي تحملها وتتمتع بها. سيصعب على بوب أن يرى من خلال تلك الواجهة الخارجية الحمقاء، الخجولة، ذات الشعر الذي يشبه وبر الفئران، المتباكية التي كانتها في الرابعة عشر من عمرها.

بعد إضافة آخر طبقة من البودرة، انضمت إلى الجمع مرةً أخرى و اصطفت عن البوفيه لتتناول لحمًا مشويًا و سمك السالمون. لن تأكل الكثير من ذلك، لكنها لم تفعل ذلك حينها، ليس أمام الملأ: امرأة نهمة، أكولة ليست كائنًا ذو جاذبية غامضة. أحجمت عن تفتيش الجمع لتحديد موقع بوب – لربما لوح لها وهي تحتاج وقتًا لتفكر- واختارت طاولة في أقصى ركن من الغرفة. لكن بسرعة ينزلق بوب بجانبها دون الكثير من الكلام من مثيل هل تسمحين لي بالانضمام لك. يفترض أنه بال مُسبقًا في خرطوم إطفاء الحريق تفكر،ادهني هذا الجدار رشًا. اقطعي رأس هذه الجائزة والتقطي صورة مع قدمه موضوعة على جسده. كما فعل من قبل، لا يعني هذا أنه يتذكر ذلك. تبتسم.

إنه قلق ومهموم. هل فيرنا محقة؟ أوه، نعم، تجيب. يبدو فقط أن شيئًا ما حدث بطريقة خاطئة. يندفع بوب بجرأة إلى المقدمات. ما هو عمل فيرنا؟ تقول أنها متقاعدة، رغم أن لها وظيفة مربحة كمعالجة فيزيائية في قسم إعادة التأهيل لأولئك الناجين من النوبات القلبية والجلطات. ” لابد أن ذلك كان عملًا ممتعًا” يقول بوب. أوه، نعم تقول فيرنا. عملٌ مرضٌ جدًا أن تساعد الناس.

لكنه كان أكثر من مجرد عمل ممتع. إذ أدرك الرجال الأغنياء الذين يتعافون من نوبات تهدد حياتهم جدارة المرأة الشابة الجذابة ذات اليدين الماهرة، والسلوك المشجع، والمعرفة البدهية باللحظة المناسبة للامتناع عن الكلام. أو كما صاغها زوجها الثالث في مزاجها المحب لجون كيتس: الأنغام المسموعة عذبة، لكن تلك غير المسموعة أعذب. كان هناك أمرٌ متعلق بحميمة العلاقة – علاقة فيزيائية جدًا- أدى إلى حميميات أخرى، رغم أن فيرنا كانت لا تصل دومًا إلى الجنس: كان أمرًا دينيًا كما كانت تقول. إذا لم يكن هناك أي عرض قريب بالزواج، فإنها ستحرر نفسها، مستشهدة بمهمتها لخدمة المرضى الذين يحتاجونها أكثر. تكفل ذلك بالأمر مرتين.

اختارت مواقفتها بالحرص على الحالة الطبية للمعني بالأمر، ومتى ما تزوجت بذلت ما بوسعها لتجعل للمال قيمة. غادر كل زوج من أزواجها ليس سعيدًا فقط بل وممتنًا، إذا ما كان أسرع بقليل من الوقت المتوقع لشفائه. لكن كل منهم مات موتة طبيعية، ظهور جديد مميت للنوبة القلبية أو السكتة التي أُصيبوا بها قبلًا. كل ما كانت تفعله هو إذنٌ ضمني لتلبية وإرضاء كل رغبة ممنوعة ومحرمة: تناول طعامٍ يسد الشرايين، الشرب بقدر ما يشاؤون، العودة للعب الغولف بأقرب وقتٍ ممكن. امتنعت عن التعليق عن أنهم  كانوا في واقع الأمر – بدقيق العبارة- يعالجون بحماسة وحرص شديد. تعجبت وتساءلت عن الجرعات، كما كانت لتقول لاحقًا، لكن من كانت هي لتطرح رأيها أمام الطبيب؟

وإذا ما حدث وأن نسي رجلٌ أنه تناول أدويته مُسبقًا ذلك المساء ثم وجدها مرتبة بإتقان في مكانها المعتاد وتناولها مرة أخرى، ألم يكن ذلك متوقعًا؟ يُمكن لمميعات الدم أن تكن خطرة جدًا، حين الإسراف بتناولها. يمكن أن تتسبب بنزيفٍ في دماغك.

ثم كان هناك الجنس: المدمر، الضربة القاضية. لم تكن فيرنا نفسها مهتمة بجنس بحد ذاته، لكنها كانت تعلم ما المجدي. “أنت تعيش مرةً فقط”، كانت لها عادة قول هذه الجملة، حاملة كأسًا من الشامبانيا أثناء تناول عشاءً على ضوء الشموع وثم مجهزةً حبوب الفياجرا، تقدم علمي ثوري لكن مؤذٍ جدًا لضغط الدم. كان عنصرًا أساسيًا اتصالها بالمسعفين فورًا ، رغم أنه ليس فورًا  في حقيقة الأمر. “كان على هذه الحال حين استيقظتُ” كانت جملة مقبولٌ قولها. لذا كان الوضع: ” سمعتُ صوتًا غريبًا في الحمام، وحين ذهبتُ لأرى ما الأمر …”.

لم يراودها أي ندم. كانت تؤدي لهؤلاء الرجال معروفًا: بالطبع رحيل سريع رشيق خيرٌ من ذبول متباطئ.

كانت هناك صعوبات مع الأطفال البالغين لاثنين من الأزواج بخصوص الإرث. قالت فيرنا بكرم وتهذيب أنها تتفهم شعورهم، ثم دفعت لهم، أكثر مما كان كافيًا بنزاهة واضعةً نصب عينيها الجهد الذي بذلته. ظل حسها بالعدالة مشيخيًا: لم تطمع بأكثر مما تستحق، لكنها لم ترغب بأقل من ذلك أيضًا. تروقها الحسابات المتوازنة.

يميل بوب نحوها، مخفيًا يدها على طول ظهر كرسيها. هل زوجها موجود معها في الرحلة البحرية؟ يسألها، قريبًا من أذنها أكثر مما يفترض به، أنفاسه فيها. لا، تقول، ترملت مؤخرًا – تشيح هنا ببصرها إلى الطاولة مطأطأة رأسها، راجيةً أن تظهر حزنًا أخرس- وهذه نوعًا ما رحلة تشافي. يقول بوب أنه آسف جدًا لسماع ذلك، -لكن يا لها من مصادفة- إذ أن زوجته توفيت منذ ستة أشهر فقط. كانت مصيبة، كانا يتطلعان حقًا لسنواتهما الذهبية معًا. كانت حبيبته منذ أيام الكلية، كان حبًا من النظرة الأولى. هل تؤمن فيرنا بالحب من النظرة الأولى؟ نعم، تقول فيرنا، تؤمن بذلك.

يفضي بوب بالمزيد: انتظرا حتى نال شهادته في الحقوق ثم تزوجا وثم أنجبا ثلاثة أبناء، وهناك الآن خمسة أحفاد، هو فخورٌ جدًا بهم جميعًا. إذا أراها أي صورٍ لأطفال -تفكر فيرنا- سأضربه.

“يخلف ذلك فراغًا أجوفًا، أليس كذلك؟” يقول بوب. “فراغًا خالٍ”. تعترف فيرنا بأنه كذلك. هل تود فيرنا أن تشارك بوب زجاجة نبيذ؟

أيها الفنان بالكذب الأحمق، تفكر فيرنا. إذًا مضيتَ لتتزوج وتنجب أطفالًا وتحظى بحياةً طبيعية، كما لو أن شيئًا لم يحدث أبدًا. بينما بالنسبة لي … تشعر بالغثيان.

“أود ذلك” تقول. “لكن انتظر حتى نركب السفينة. سيكون ذلك أكثر ترفًا”. أعادت تلك الحركة بجفنيها مرة أخرى. “سأخلد الآن إلى نومتي الجميلة”. ابتسمتْ، انطلقتْ صاعدة.

“أوه، بالطبع لا تحتاجين ذلك”. يقول بوب بشهامة. بل حتى أن الأحمق سحب لها كرسيها. لم يظهر أخلاقًا رفيعة كهذه آنذاك. بغيض، حيواني فظ، هزيل كما كان زوجها الثالث يقول مُقتبسًا من هوبيز عن الرجل الطبيعي. في الوقت الحاضر ستعرف الفتاة أن عليها الاتصال بالشرطة. في الوقت الحاضر سيُسجن بوب مهما كانت الأكاذيب التي سيتفوه بها؛ لأن فيرنا كانت قاصرًا. لكن لم يكن هناك حينها أي كلمات حقيقية تصف ما حدث: الإغتصاب هو حين يقفز مجنونٌ ما عليك خارجًا من أجمة، لا حين يوصلك موعدك الرسمي للحفل الراقص إلى شارع جانبي في غابة جرباء مشذبة مرتين تُحيط ببلدة شركة التعدين الديكتاتورية ويخبرك بأن تشربي كفتاة طيبة ويستفرد بك جانبًا، ويعريك ويمزقك طبقة تلو طبقة. والأسوأ من ذلك أن صديق بوب المقرب كين ظهر حينها بسيارته ليساعد. كان كلاهما يضحك. واحتفظا بملابسها الداخلية كتذكار.

بعدئذٍ دفعها بوب خارج السيارة في منتصف طريق العودة؛ طبعًا لأنها كانت تبكي. “اخرسي أو عودي للمنزل سيرًا” قال لها. علق في بالها صورتها وهي تعرج وتترنح على الطريق المتجمد بقدميها الحافيتين اللتين علقتا في حذائها العالي المصبوغ بالأزرق السماوي، تشعر بدوار ومتجمدة وترتجف و -إهانة أخرى مضحكة- تعاني من الفواقة. كان أكثر ما أقلقها حينها هو جواربها الطويلة، أين كانت جواربها الطويلة؟ كانت اشترتها بمالها الذي جمعته من عملها في الصيدلية. لابد أنها كانت تعاني من صدمة.

هل تتذكر ما حدث بدقة؟ هل علق بوب ملابسها الداخلية برأسه مقلوبة ورقص بها في الثلج وأشرطتها تتدلى يمنة ويسرى كأجراس مهرج؟

تلك الملابس الداخلية، تفكر. يا للقدم، تبدو كأنها من عصر ما قبل التاريخ. هي وكل الآثار القديمة التي اندثرت معها. اليوم إما أن تتناول الفتاة حبة من حبوب منع الحمل أو أن تخضع لعملية إجهاض دون أن تنظر ورائها. يا للتحجر أن تظل تحس بأنك مجروح من أيٍ من هذا.

كان كين -ليس بوب- من عاد لأجلها، أخبرها بفظاظة أن تصعد السيارة، قاد بها إلى المنزل. هو -على الأقل- كان له شرف أن يكون المخزي. “لا تقولي أي شيء” دمدم. ولم تفعل، لكن صمتها لم يوردها إلا المهالك.

(1): المواطنون الأصليون الذين يسكنون المناطق القطبية الشمالية في أمريكا الشمالية وجرينلاند.

أضف تعليق